رنيه ماغريت - 1952
عندما نصل إلى مرحلة يأكل فيها الفاجر مال التاجر، على ما يقول المثل الشائع، فهذا يعني أنّ حسابات المنطق تعطّلت أمام تفلّت الانفعالات الدنيا من عقالها وانطلاقها في شكل مدمّر مخيف. والفاجر في اللغة، هو المفارِق والمنشقّ عن طريق الصلاح، وإذا كان الفجر سمّي كذلك لانشقاق الظلمة عن الضياء، وإذا كان انفجار الأنهر سميّ كذلك لأنّ المياه فارقت أحد جانبي النهر، فذلك لا يعني أن نحتفل بكلّ انشقاق وانفجار.
التاجر عادة يحسب الأمور جيّدًا، ولا يقبل بالخسارة ولا يخضع للابتزاز ولا يرضى بالتنازل عن حقّه مهما كلّفه الأمر، ولكنّه أمام "الفاجر"، بالدلالات التي صارت تحملها هذه الكلمة، يتنازل ويسكت، ويشتري - ولو بخسارةٍ - صمتَ من يتوعّد ويصرخ وينفجر غاضبًا أو حاقدًا أو منفعلاً أو مدّعيًا كلّ ذلك في قحة وسوء خلق غير مكترث بالحقّ والأخلاق. ومن الأكيد أنّنا في هذا الزمن الرديء صرنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الانحياز إلى جانب التاجر ولو سرَقَنا أو الخوف من الفاجر لئلّا يطالنا رذاذ شتائمه وعهره. وفي الحالين نحن في موقع لا نحسد عليه.
يظنّ كثرٌ أنّ الكلام في صوت عال وفي نبرة قاسية يخيف الآخرين ويعطّل فيهم القدرة على التحليل والتفكير، كأنّ الصوت المرتفع، ولو فارغًا من المعنى والمضمون، هو الذي يفرض نفسه وسطوته ويدفع الآخرين إلى الانكفاء والتراجع. لذلك نجد في المؤسّسات والشركات، وكذلك في العائلات، رغبة في تحايد هؤلاء "الفاجرين"، فيتمّ إرضاؤهم وشراء سكوتهم بما أمكن، لا بل قد يصل الأمر إلى ما هو أبشع من ذلك إذ يجري الخضوع لهم والتذلّل أمامهم خشية التعرّض لكلامهم الجارح وصراخهم الأصمّ وانفعالاتهم الهوجاء. ولا أعرف عند ذلك كيف يمكن لأيّ مؤسّسة أو شركة أو عائلة أن تسيّر أمورها بشكل سويّ وفاعل. فالمشكلة مع الفاجر أنّه لا يناقِش ولا يُناقَش ولا يصغي ولا يترك مجالاً لحوار، هو في الأساس لا يريد أن يصمت لأنّه عند ذلك سيخسر معركته التي يعرف مسبقًا أنّه لن يربحها إن ترك المجال لغيره في التعبير وإبداء الرأي، لذلك يعمد إلى ربط الأفكار ببعضها فتتلاحق المفردات وتتداخل الأساليب الكلاميّة وكلّ ذلك في لهجة عنيفة صاخبة تقتحم عالم الآخر وتخضّه من دون أدنى احترام أو تهذيب. يعرف الفاجر أنّ الكلمة الأخيرة يجب أن تكون له، وأنّ عليه ألاّ يدخل في معركة إلاّ مع تاجر يخاف على سمعته لا مع فاجر مثله لا يعنيه العيب.
إنّ مراقبة بسيطة لمجتمعاتنا تبيّن في وضوح كيف يستشري الفجور في كلّ المجالات: في السياسة والدين والفنّ، حتّى أنّ مستوى الصراخ الوقح يسجّل أعلى نقاطه في الأعمال الفنيّة التي تعبّر عن طبيعة حياتنا اليوميّة. ففي الأغنية صراخ، وفي التمثيل صراخ، وفي المقابلات والبرامج الحواريّة صراخ، وفي برامج الأطفال صراخ، وكلّ ذلك منقول عمّا يجري في الشارع والبيت والعمل والمدرسة، ويعبّر عن حالة الخواء التي نحن فيها والتي نحاول تمويهها بشكل من أشكال العنف الكلاميّ الخالي من أيّ مضمون.
والغريب في هذا الموضوع كيف يتشابه الفجّار لغة ولهجة ونظرات وتصرّفات، كأنّ ثمّة عدوى لها المؤشّرات نفسها والعوارض نفسها، تنطلق بين الناس فيتعلّم الواحد من الآخر أنّ هذا الأسلوب ناجح ومثمر ولا يخيّب ظنّ من يستخدمه. ولذلك فنحن لا نستطيع أن نقول للناس من هؤلاء أنّ علينا أن نتحدّث في هدوء، فالهدوء فاضح لهم، لأنّه يعرّيهم من ادّعاءات الفهم والمعرفة وامتلاك زمام الأمور، ويكشف خواءهم من أدنى مقوّمات الوعي والفكر والثقافة. ومع ذلك فلقد سمحنا لهؤلاء الفجّار بأكل مال التجّار والزبائن، وحجّتنا أنّنا مهذّبون لا ننحدر إلى مستوى وضيع. وصار من اللازم أن نتعلّم أنّ التهذيب هو تشذيب لا يخلو من عنف وقسوة هما من ضرورات الإصلاح والتحسين والصقل والتخليص من كلّ شائبة، وإلّا تحوّل جبنًا وتخاذلًا.
هناك تعليقان (2):
وفي المثل (ومصدره التجار): "أعطي السفيه (عامية،هنا تعني الوقح الصلف) نصف مالك فأنت الرابح".
منطق قياسي
في زمن اللامنطق...
الفجور يصيرُ معولمًا...
إرسال تعليق