أسمعكم
في مقاهي الحمراء واكتشف الوجه المختبئ خلف الصّفحات
يقول لوي لافيل: "أمّا القارئ فإنّ
نظره كلّه يكون مستديرًا إلى الدّخائل، ويبدو، أحيانًا، إنّ الفكر ينساب إليه
انسيابًا مباشرًا لا يحتاج معه إلى وساطة الجسد".
ويقول: "وشبيه بالمؤكّد أن نكون نحن
(ويقصد المؤلّفين) الّذين ارتكبنا أوّل الأخطاء. وإذا يحاول قرّاؤنا والنّقّاد أن
يفهمونا، فإنّهم يمدّون لنا من العون، يدًا علينا الاعتراف بها، والشّكر عليها.
إنّهم يعوّضوننا عن جهد بذلناه ويضمّون جهدهم إلى جهدنا".
ثمّ يقول: "من الجائر إنّ من يقضي عمره في الكتابة يكون
مفتقرًا إلى الأصدقاء الحقيقيّين. إنّه لا يكفّ عن مراسلة أصدقاء
مجهولين"(1).
هي الصّدفة ساقت إليّ هذا الكلام حين كنت
أفتّش عمّا أقوله للّذين يسألونك عنّي.
أخبرهم إذن إنّك تعرفني كما يعرفونني:
ألتقي بكم في دور السّينما، وفي المعارض، وفي النّدوات. أجلس بينكم خلال العروض
المسرحيّة، أشرب معكم القهوة في مقاهي الحمراء. أنتبه عندما أسمع أحدكم ينادي آخر
لأنّي سأكتشف الوجه المختبئ خلف الصّفحات المكتوبة، وأفاجأ أحيانًا لأنّي ما زلت
أحبّ أن أراكم آتين من عالم سحريّ غامض. أنتم أصحاب الإبداع، وإن صرت أعلم الآن إنّ
الهالة انطفأت فوق رؤوس الكثيرين. أمّا لماذا لا أظهر إلى العلن الثّقافي إلاّ حيت
أكتب لك، فلأنّني، وبكل بساطة، حيّيتك (زاهي وهبي) مرّة فرددت التّحيّة بأحسن
منها، وأقصد طبعًا رسالتي الأولى.
ولأنّني، حتّى عندما لا نتّفق، يعجبني
أسلوبك في الدّفاع عمّا تؤمن به.
ولأنّني، ثالثًا، أقدّر فيك رغبتك في أن
تتعلّم، فأنا كلّما رأيتك جالسًا مع الكبار، أكاد أثق أنّّك تأخذ منهم، وتدرس على
يدهم. وإن كنت أشرت مرّة إلى جلوسك
بين كبيرين في صيدا، فلأنّني خشيت على من حيّيته فردّ التّحيّة بأحسن منها، أن
تخدّره فكرة الاطمئنان إلى موقعه، أو كما قال لوي لافيل في المقالة المذكورة
سابقًا حين يتحدّث عن نجاح الأدباء: "ونحن، إذ نطمئنّ إلى القوّة الكامنة
فينا، نستريح إليها. ونتّكئ عليها. إنّها، عندئذ، تفارقنا، لأنّنا لا نستطيع
رعايتها". ويقول في مكان آخر: "إنّ تجارب النّجاح الخارجيّ... تفضي بفرح
العقل إلى النّضوب".
إلاّ إنّك أثبتّ لي خطأ حكمي عليك حين لم
تمنعك مكانتك الأدبيّة عن الاعتراف بأنّ الآخرين يشكّلون "حافزًا للكتابة
وذريعة لوجهة نظر"، وجعلتني بذلك أخاف أن يصيبني ما خفت عليك منه، وخاصّة بعد
المسؤوليّة الّتي حمّلني إيّاها شوقي أبي شقرا.
يقول الياس خوري: "لا خيار لنا، سوى
أن ندافع عن عقولنا وأرواحنا. لا خيار لنا، سوى أن نصرخ في وادي الصّمت ونحذّر
وندعو.
المعركة لم تنته بتعديل المرسوم 104.
المعركة هي من أجل حرّيّة الصّحافة
والثّقافة والنّقابات والإعلام والمدرسة والجامعة.
إنّها معركة الحاضر والمستقبل"(2).
كثير هو الكلام عن الحرّيّة في لبنان،
وكلّ من يكتب عن هذا الموضوع يوجّه أصبع الإتّهام إلى الدّولة، ويعتبرها سارقة
الحرّيّات وكاتمة الأصوات وخانقة الأنفاس.
قد تكون الدّولة في وارد أن تفعل ما هو
أخطر من ذلك ـ لا أستطيع أن أتخيّل ما هو أخطر ـ ولكن، هل الدّولة كائن وهميّ أو
مخلوق فضائيّ لا نعرف عن تركيبته شيئًا؟
أليست الدّولة مجموعة أشخاص أوصلناهم نحن،
بسكوتنا أو بموافقتنا، إلى حيث هم اليوم، أي في المراكز الفاعلة والمدبّرة
لشؤوننا؟
وراء كلّ سياسيّ، "مثقّف" يكتب
له خطبة السّياسة، وفي مكتب كلّ مسؤول، أسماء إعلاميّة تقرأ له، وتكتب عنه، وتنقل
إليه أخبار البلد والنّاس. وفي كلّ مؤسّسة إعلاميّة معارضة، صحافيّون يعملون سرًّا
ـ إذا أمكن السّرّ ـ في مؤسّسة أخرى تدفع أكثر وبالعملة الّتي كانت صعبة.
ويقول الياس خوري: "تذكرون أو لا
تذكرون كيف فرضوا علينا عبادة مجموعة من الأصنام الصّغيرة".
وأقول له: نذكر، نعم نذكر كيف كنّا نحن،
على اختلاف أهوائنا وانتماءاتنا، عاملين على تكبير هذه الأصناف الصّغيرة وتلميعها
ونفخ الحياة فيها حتّى داست كرامتنا وخطفتنا واذلّتنا.
عن ايّ حريّة يتحدّثون، والحرّيّة الوحيدة الّتي
أرى النّاس ساعين إليها هي الخلاص من عبوديّة الدّيون وقيود العجز المادّيّ.
في أحد آخر الحوارات "المهمّة
والنّادرة" معه، قال يوسف الخال عن رفاقه في مجلّة شعر: "يا أخي،
السّيّاب أعطوه شيكًّا بألف ليرة، وقال لي: أعرف إنّك لن تزعل منّي، بدّي مصاري.
إنت ما معك، هم معهم". أعطوه أوّل صفحة في "الآداب" وحطّوها بكادر.
هذا ما حصل "بدّي مصاري لأبعث لعيلتي". ويتابع يوسف الخال: "تصوّر شخصًا طالعًا من المدرسة
في أوّل حياته مثل شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج صار يعلم ويشتغل في الصّحافة. ومع
الأيّام، كلّ لديه متطلّبات حياتيّة"(3).
أليست الإلتزامات العائليّة قيودًا على
حرّيّة الصّحافة والشّعر؟
أليس الإرتهان لحزب أو لدولة تكبيلاً
لحرّيّة الإعلام؟
أليست مسايرة رئيس أو مسؤول إساءة إلى
الحرّيّة؟
الحرّيّة لا تتجزّأ ولا تتلوّن، وهي ليست
في أن نقول الشّيء وعكسه.
هل الحرّيّة هي الّتي تجعل مسرح بيروت
مثلاً يعرض عملاً ضدّ تهديم العاصمة كمذكّرات أيّوب، ثمّ يوجّه هذا المسرح نفسه
دعوات إلى ندوات حول إعادة إعمار بيروت، ويساهم في التّسويق لهذا المشروع
إعلاميًّا، وعبر دعوة المدرّسين والجامعيّين؟ أذكر يومها إنّنا واجهنا صعوبة في الوصول
إلى المسرح، لأنّ ورشة "تزفيت" الشّارع، حيث المسرح، كانت قائمة.
ماذا فعل المثقّفون في معركة الحرّيّات
هذه؟ في الحرب، قلنا إنّهم لا يجرؤون على معارضة عمليّة خطف الفنّانين وقتل
الصّحافيّين لأنّهم سيواجهون أحزابًا غير معروفة الإنتماءات، وهم ليسوا إنتحاريّين.
فكان مثقّفو الغربيّة يعارضون ما يجري في الشّرقيّة لأنّ يد الأحزاب في تلك
المنطقة لن تطولهم. ومثقّفو الشّرقيّة يهاجمون الأحزاب الوطنيّة على اعتبار إنّ
مفعولها لن يصل إليهم.
والآن، ما هو عذر المثقّفين؟ وافقوا على
الطّائف، ووافقوا على كلّ ما انتجه على كلّ المستويات، ووافقوا على الدّولة
وهاجموا الأحزاب. وها هي الدّولة تمنع فيلمًا و"تقاضي" آخر، وهم يخنقون
أصوات احتجاجهم.
وها هي الدّولة تمنع كتابًا، وأصوات
الإعتراض لم تتعدّ جدران المسرح حيث اجتمعوا، وبغض النّظر عن شماتة الكثيرين، وفرح
الشّاعر بالدّعاية المجّانيّة.
وها هي الدّولة توقف صحيفة، فتفرح الصّحف الأخرى
لأنّها وجدت عنوانًا للإفتتاحيّة، وسينعكس الأمر طبعًا على نسبة الأرباح.
والتّلفزيونات يحارب بعضها بعضًا من أجل
الفضاء، فخسرت الأرض.
ونقابة المحرّرين تحارب الصّحافيّين وتمنع
انتسابهم إليها بحجج واهية أو بشروط تعجيزيّة.
عن أيّ حرّيّة يتحدّثون؟ والمجلّة
الفلانيّة تتلقّى المساعدات من إحدى الدّول، والصّحيفة الفلانيّة يغطّي العجز في
ميزانيّتها رئيس دولة أخرى؟ أيّ حرّيّة يطلبونها من الدّولة والمثقّف في الصّحيفة
الفلانيّة يدين بالوفاء لمن "دبّر" له عملاً، والصّحافي يدين بالإخلاص
للطّائفة الّتي فرضته في مركز إعلاميّ معيّن.
أين الحرّيّة وريمون جبارة يكتب ليملأ
زاوية له في جريدة توفّر له دفع تكاليف ذكرى غياب والده في كنيسة القرية؟(4) أليس
التّقليد الإجتماعيّ ملزمًا أيضًا؟ (دون أن ننسى إنّ مبالغة ريمون جبارة ووصفه
الكاريكاتوري لا يعنيان عدم جدّيّة الفكرة الأساسيّة).
ولنفرض إنّ الدّولة أعطتنا الحرّيّةـ مع
إنّ الحرّيّة تؤخذ ولا تعطى كما علّمونا ـ فكيف ننجو من الّذين يمنعون فيلمًا في
طرابلس، ويعترضون على آخر في التّلفزيون، ويمزّقون الإعلانات على الطّرقات لأنّها
تسيء إلى الدّين؟ وما رضوخ المعترض عليهم (بفتح الرّاء) إلاّ دليل واضح على إنّ
المواجهة بين الحرّيّة والخوف على الحياة محسومة النّتائج سلفًا.
منذ عشر سنوات، كتب جورج قرم تحت عنوان:
"ثقافة لما بعد الفتنة": "أمّا ثقافة الفتنة فأفقدت اللّبنانيّين
الرّؤية تمامًا، فلا تزال تتكلّم عن الحرّيّة والدّيموقراطيّة بينما الطّائفيّة
المجنونة الفتّاكة جعلت من العقليّة اللّبنانيّة عقليّة عنصريّة فاشستيّة لا تقدر
على فصل الأعمال الإجراميّة عن الأعمال الحربيّة"(5) وتحت العنوان نفسه يقول
جورج قرم: "عودة لبنان وطنًا لن تتحقّق بين عشيّة وضحاها أو في سيادة ثقافة
الفتنة، وإنّما إشارة إلى استعداد اللّبناني لنسيان ثقافة الفتنة بسرعة والتّنازل
عن انفصام الشّخصيّة بين عقليّة طائفيّة مريضة وتوقه إلى الوحدة والنّهضة
الشّاملة"(6). ثمّ يقول "وهبط المستوى الثّقافيّ حتّى انعدم تمامًا في العشر
الماضية وحلّت محلّ الثّقافة اللّبنانيّة ثقافة الفتنة الّتي ترى كلّ شيء من منظار
طائفيّ تغذّيه عبارات طنّانة عن أفكار العالم الحديث (ديموقراطيّة، تعدّدية،
قوميّة، تحرّر، مشاركة، حرّيّة، كرامة، ...). وتنتج تلك العبارات عكس ما تنطوي
عندما تبلعها ثقافة الفتنة، فنتيجتها أخلاق مبنيّة على عدم احترام كرامة الإنسان
وحرّيّته الأساسيّة"(7).
والأسئلة الّتي تثيرها كلمات جورج قرم هي
التّالية: هل نحن أمام استمرار ثقافة الفتنة بما تحمله من شعارات؟ وما هو الخطر
الّذي يمثّله استمرار هذه الثّقافة مع حاملي ألويتها أنفسهم، وهم الّذين رفعوا
رايات الحرب يوم كانت الحرب تحتاج إلى أصواتهم المدافعة عنها، ويرفعون اليوم رايات
السّلم من مراكز مرموقة ومنابر مشرّفة، لأنّ "الثّقافة في بيروت اليوم أكثر
إغراء من أيّ وقت مضى لما توفّره من مظهر اجتماعيّ أو تعوّضه من أدوار
مفقودة"(8).
المعركة من أجل الحرّيّة شرسة، لأنّها
أساسًا، معركة الإنسان مع نفسه، ومن انتصر فيها هانت عليه التّحدّيات الأخرى
(مقالتك إلى فؤاد رفقة (9)).
يبقى أن يحدّد المثقّفون المطالبون
بالحرّيّة خياراتهم وساحة معاركهم، فمن الصّعب في اعتقادي، أن ينتصروا (ولنكن
واقعيّين بعض الشّيء) في معركة الحرّيّة، ومعركة الرّاتب الشّهريّ المريح جدًّا،
ومعركة الشّهرة والانتشار مرّة واحدة.
"لبنان كيان ثقافيّ"، تقول.
صحيح. والحرّيّة هي حدوده، والمعركة من
أجل هذه الحدود تحتاج إلى خطط وتنظيم وحسن استعداد. فهل لنا أن نعرف كيف يستعدّ
لها المثقّفون، إلّا إذا كانت هذه الخطط سرّيّة من أجل الانقضاض على العدو وسحقه؟
ميّ
م. الرّيحاني
جريدة
"النّهار" الخميس 19 أيّار 1994
1
ـ لوي لافيل، من كتاب"وعي الذّات" ترجمة أحمد حاطوم "النّهار"
29 نيسان 1994.
2
ـ "ملحق النّهار" السّبت 16 نيسان 1994.
3
ـ "النّهار" الأربعاء 9 آذار 1994.
4
ـ "الملحق" السّبت 16 نيسان 1994.
5
ـ "النّهار" الخميس 30 آب 1984.
6
ـ "النّهار" الإثنين 27 آب 1984.
7
ـ "النّهار" الخميس 30 آب 1984.
8
ـ "النّهار" 12 تشرين الأوّل 1993.
9
ـ "النّهار" 6 نيسان 1994.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق