متى أيّها الشّاعر تنتهي إجازتك الأريستوقراطيّة؟
بكلّ بساطة، يعلن الشّعر إنّه في إجازة.
بكلّ بساطة، يقول الشّعراء إنّ القصائد المؤجّلة إلى ما
بعد دوام العمل تذبل وهي في غرف الانتظار.
بكلّ بساطة، تترك الكلمات على رصيف الحياة اليوميّة، إذ
إنّ الشّعراء المستعجلين لم يتوقّفوا ليأخذوا بيدها ويعبروا بها إلى حيث الحياة
والصّراع، إلى حيث يكون البقاء للأقوى أو... للأصلح.
بكلّ بساطة، وبكلّ هدوء، يعترف الشّعراء أن لا وقت لديهم
للكتابة.
لن أقول جديدًا إذا قلت إنّ الشّعر في أزمة، لكن الوقت
ضيّق وسرعة الحياة في اتّجاهها المادّيّ ليسا السّببين الوحيدين. ولكن يبدو إنّ
الشّعراء تآلفوا مع الحرب إلى درجة إن باتوا عاجزين، مع توقّفها، عن إيجاد حروبهم
الدّاخليّة البديلة، وإذا بهم فجأة أمام الفراغ.
أراهم، الآن، يشتاقون إلى القصف والملاجئ، حيث يتآلفون
مع أعضائهم ويخافون عليها من رصاصة طائشة، وحيث يتصالحون مع ذواتهم، وينظرون إلى
الموت نظرة النّدّ للنّدّ، ولا يخافون منه قدر ما يهربون اليوم من حرارة شمس لاذعة
أو يخافون من تأخّر راتب آخر الشّهر.
أراهم في الملاجئ حيث يتصالحون مع المحيطين بهم، فتصير
الأمّ رمزًا وأيقونة، ويصير الوالد حبيبًا بضعفه وانهزامه، ويستحقّ كلّ منهما
ديوان شعر، بعد إن كانا كلاهما رمزًا للتّسلّط والرّجعيّة.
أراهم يشتاقون إلى ضوء الشّمعة، يكتبون في دفئه
ويستعجلون، خشية أن يصل " المستعجل" دائمًا ويأخذهم قبل أن يقولوا
كلمتهم. وها هم اليوم يقولون: بكرا، بس نرتاح شوي، سنكتب.
أراهم يحلمون بالحياة الّتي كانت فيهم في زمن الموت، وها
هم يسيرون في شوارع المدينة الصّاخبة وقد فارقتهم الحياة، الحياة المختلفة، الحياة
الغير شكل.
عمّ يتكلم الشّعراء اليوم؟
الحديث بات غير مقنع، زمن فقد المرء الثّقة بالنّفس
وبالآخرين، ولم تعد الكتابة تحرّك شعورًا أو تثير دمعة بعد إن أظهرت الأيّام أنّ
الشّعراء الثّوريّين هم أوّل الإنهزاميّين والمستسلمين، وهم أوّل السّعاة إلى
الإشتراك في مهرجانات الشّعر الّتي تقيمها دول تتعارض أنظمتها مع إيديولوجيّاتهم
وعقائدهم، ويقيمون الأرض ولا يقعدونها إذا امتنعت هذه الدّول عن دعوتهم.
وصارت الكتابة عن المعتقلين مغامرة يخشى الشّاعر
مقاربتها لئلاّ يسيء إلى مفاوضات السّلام.
وهكذا انكفأ الشّاعر على نفسه، وبدأ يبحث عن عالم آخر
لشعره، فلم يجد أمامه إلاّ المرأة، يستعيض بجسدها عن وطنه المفقود. والطّريف في
الأمر إنّ بعض الأديبات فعلن الأمر نفسه وكتبن عن الجسد أيضًا، عن جسد المرأة
تحديدًا. ومرّة أخرى وجدت الكتابة نفسها أمام الحائط المسدود حين اصطدمت
بالممنوعات والمحاذير.
ثمّ نحا بعض الشّعراء منحى مختلفًا حين لم يجد بعضهم
مانعًا في الكتابة عن مظاهر
اجتماعيّة واقتصاديّة وحياتيّة كنّا نظنّها إلى حين غير صالحة كمادّة شعريّة. ولكن
هذه الكتابة تطرح رهانًا حول قدرتها "على فتح ثغرة حقيقيّة في جدار الحداثة
شبه المسدود" كما يقول شوقي بزيع. وهي تجربة قد لا يستطيع الكثيرون مجاراتها
بحكم شخصيّاتهم وخطّهم الشّعريّ.
ومن جديد، بحث الشّعراء عن وسيلة تعبير مختلفة، وهم، إذ
تركوا الرّسم والنّحت للشّاعرات، توجّهوا إلى النّقد، والشّاعر بطبيعته ناقد. ولكن
هؤلاء الشّعراء ـ النّقّاد واجهوا مشكلة، فلا إبداع حقيقيًّا وصادقًا يستحقّ كلّ
هذا العدد من النّقاد، ولا كثافة الأعمال الإبداعيّة تسمح بتقاسمها، ولهذا كنّا
نلاحظ إنّ الأقلام في الصّفحات الثّقافيّة لمختلف الصّحف والمجلاّت تكتب عن
مسرحيّة واحدة طيلة أسبوع، بتشابه غريب في الأفكار والصّياغة.
وهكذا تحوّل هؤلاء المبدعون من موقع الفعل إلى موقع ردّة
الفعل. وإذا مرّت فترة ركود في المسرح أو في المعارض والنّدوات، وجد هؤلاء
الشّعراء ـ النّقّاد أنفسهم مرّة أخرى أمام الفراغ. فيتكاسلون ويقولون: ليس هناك
شيء يستحقّ الكتابة عنه.
ولعلّنا نجد التّأكيد على هذا الكلام في الصّفحات
الثّقافيّة نفسها، إذ كان يكفي أن يظهر شاعر كبير كشوقي أبي شقرا على المنبر ليطرح
سؤالاً عن الشّعر، حتّى تتحرّك الحياة الرّاكدة، ويجد النّقّاد في السّؤال مناسبة
لكتابات وردود وتعقيبات.
ولعلّ الأستاذ أبي شقرا، بظهوره في هذا الوقت بالذّات
إلى العلن، يريد أن يثبت إنّ السّلام لا يعطّل الكلام، لأنّ الشّاعر في حرب
داخليّة مستمرّة ولا سلام في عالمه.
الشّعراء في حالة كسل، وإذا هبّ فيهم نشاط فلاقتناص
اللّحظة الهاربة، ولكتابة تعليق عابر وآنيّ، وكأنّ في الأمر محاولة للبقاء على
السّاحة الثّقافيّة.
وغدًا، حين تذبل أوراق الصّحف، ويغيّر الغبار رائحتها،
سنبحث عن كتاب شعر يطرد غربة اللّحظة، ونسأل أين دواوين الشّعراء، وسنعتب عليهم
على قدر محبّتنا لما كان يمكن أن يكتبوه ولم يفعلوا.
أيّها الشّاعر، متى تنتهي إجازتك الأريستوقراطيّة،
وتكتب؟
شرطيّو المدينة صاروا أكثر من شعرائها، وأنت لا تكتب.
الشرفات تقفل، والبحر يردم، وأنت لا تكتب.
في الصّباح حفلة إعدام، وفي اللّيل صالون أدبيّ، وأنت لا
تكتب.
الذّاكرة تمحوها أصابع الدّيناميت، وأنت لا تكتب.
أصوات الأسرى والمعتقلين والمهزومين والمتسوّلين تضجّ في
رأسك، فتسكتها بضجيج مباراة رياضيّة... ولا تكتب.
أيّها الشّاعر، أكتب الآن.
الأطفال يتعلّمون القراءة، ويريدون حكاية.
أكتب، ولا تقل إنّك عاجز عن صنع الثّورة.
أكتب عن التّناقضات والأحلام، عن اليأس والخوف والبطولات
المنكسرة.
أكتب عن النّاس الّذين تقول إنّك تحبّهم، عن قصصهم
الخجولة وحكاياتهم الدّافئة.
أكتب لئلاّ ننسى.
أكتب قبل أن تنسى.
ميّ م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة "النّهار" الخميس 14 تمّوز 1994 الاسم المستعار لماري القصّيفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق