اللّحاق بالألوان أو التّعاسة لدى أدباء في سيرتهم
لا أدّعي إنّي قرأت كلّ ما كتب عند العرب في أدب
السّيرة، ولكن ما قرأته ـ وهو ليس بقليل ـ وضعني أمام ملاحظة بدت لي تعسّفيّة
وظالمة أوّل الأمر، ثمّ رحت أدرسها علّني أجد لها مخرجًا، أو علّني أجد ما يبرّرها
أو يخفّف من قساوتها، ففشلت.
والملاحظة أنّ الأديبات، في شكل عام، عشن طفولة مرهفة،
وما ثورتهنّ وميلهنّ إلى الأدب إلاّ وسيلة للتّحرّر من سلطة العائلة الّتي يمثّلها
الرّجل إجمالاً (الوالد أو العمّ أو الأخ...) وهنّ لم يعرفن المعاناة المادّيّة أو
الفقر، كما لم يسعين إلى العمل بدافع الحاجة أو لقمة العيش، وكأنّهنّ يعرفن، في
قرارة نفوسهنّ، إنّ السّلطة الّتي يهربن منها ستقوم بتأمين هذه الحاجة ما دمن في
عائلاتهنّ، وإذا انتقلن إلى البيت الزّوجيّ، قام الزّوج بتحمّل هذه المسؤوليّة.
لن يتّسع المجال هنا، طبعًا، للمقارنة بين الأوضاع
الاجتماعيّة للأدباء والأديبات، ولكن نظرة سريعة تظهر لنا إنّ الرّجال هم من
عائلات فقيرة أو متوسّطة الحال في أفضل الظّروف، فمن منّا لا يعرف كيف كانت طفولة
جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وخليل حاوي وبدر شاكر السّياب وطه حسين. ومن منّا
لا يعرف، في المقابل، حياة اللاّحرمان المادّيّ الّتي عاشتها ميّ زيادة، وإميلي
نصرالله وكوليت خوري وسعاد الصّبّاح وإلهام منصور.
سيقول البعض إنّ هذا الكلام يحمل الكثير من التّجنّي
والعدائيّة. وقد يكون الأمر كذلك لو كنت رجلاً، أو لو كان كلامي غير مثبت
بالبراهين المكتوبة لأديبات وأدباء في سير حياتهم. وأشير هنا إلى إنّي اكتفيت
بشواهد في سيرتهم الذّاتيّة. وعندما يكتب الإنسان قصّة حياته، فهذا يعني أنّه
ضمّنها من الحقائق والعبر ما كان جديرًا بالتّسجيل والتّأريخ. ولهذا يمكننا
الاطمئنان إلى ذكر هذه الشّواهد دون خوف من معارضة أو تصحيح.
وكم يسرّني أن أعرف ـ إذا أمكن ـ إنّي أخطأت في قراءتي
أو في فهمي لهذه السّير، أو أن يخبرني أحد عمّا لم أقرأه منها، وفيها إنّ الكتابة
عند المرأة ليست ترفًا اجتماعيًا أو نوعًا متطوّرًا من الأشغال اليدويّة تختلف عن
تلك الّتي كانت تفرضها العائلات الأريستوقراطيّة على بناتها.
تقول فدوى طوقان في كتابها "رحلة جبليّة، رحلة
صعبة" إنّ الظّروف الحياتيّة لطفولتها لم تكن لتلبّي حاجاتها النّفسيّة،
وتقول: "كما إنّ حاجاتي المادّيّة لم تعرف في تلك المرحلة الرّضى
والارتياح". ولكن هذه الحاجات المادّيّة تظهر كماليّة أكثر ممّا هي حيويّة
كالحصول على ثياب جديدة غير مخيطة بيد الأمّ "الّتي لم تكن تتقن هذه
الصّنعة"، أو كالحصول على قرطين ذهبيّين كاللّذين تعلّقهما ابنة عمّها
"شهيرة"، و"كم تمنّيت لنفسي مثل هذين القرطين البرّاقين الرّاقصين.
ولكن، هيهات، فما كان أحد ليعنى بتلبية حاجاتي المادّيّة".
أمّا الطّعام فلا يبدو إنّ فدوى طوقان حرمت أنواعه
المختلفة في طفولتها، حين فاجأها أخوها تراقب النّحل يحوم حول "سدر
الكنافة"، أنّبها وقال لها: "أخبري أمّك وهي تحقّق لك رغبتك. هل ترغبين
في تناولها؟" وهنا توضح فدوى طوقان إنّها لم تكن شرهة لأنّ "الطّعام على
مختلف أصنافه هو آخر ما كنت أفكّر فيه، وذلك لوفرته في البيت الّذي كان يعجّ
دائمًا بالولائم". وتتابع: "كنت أتلهّف للحصول على شيء غير الطّعام. حلق
ذهبيّ، سوار أو فستان جميل ثمين أو دمية من دمى المصانع".
وهكذا نلاحظ إنّ هذا "الحرمان" المادّيّ الّذي
ذكرته الأديبة لم يكن إلاّ نقصًا في الكماليّات، كان من الطّبيعي أن يحرم منها
الكثيرون في زمن الحروب والحصار.
أمّا الدّراسة فلم تحرم منها فدوى طوقان لظروف مادّيّة
قاسية بل كان منعها، من خبر وصل إلى أخيها عن ملاحقة أحد الشّبّان لها في طريقها
إلى المدرسة. وهذا السّبب ينسجم كلّيًا مع البيئة الإجتماعيّة الّتي عاشت فيها
فدوى طوقان. وقد تتوضّح الصّورة إذا عرفنا إنّ شقيقاتها لم يحرمن الدّراسة مثلها.
ولن ننسى الإشارة إلى وجود الخدم عند آل طوقان
النّابلسيّين وذكرت الأديبة "صبيّة كانت تعمل في المنزل اسمها
"السّمرة"". وفي مكان آخر تقول عن أسرتها: "كانت أسرة كبيرة
العدد تزيد على عشرين إنسانًا عدا النّساء المساعدات".
كما لن ننسى تأكيدها إنّ بيتها "من بيوت الإقطاع
القديمة" إضافة إلى أخبار رحلتها إلى لندن والإقامة فيها للدّراسة والسّياحة،
دون عمل، والإكتفاء بمصروف تؤمّنه العائلة.
وفي الأدب الفلسطيني أيضًا، وفي سيرة حياته كما يرويها
في كتابه "البئر الأولى"، تظهر طفولة جبرا ابراهيم جبرا مختلفة تمامًا.
حين لم تعرف فدوى طوقان "السّقّاء" إلاّ عند خالتها، لوجود بئر، كان على
عائلة جبرا أن تشتري المياه من "السّقّاء" و"كان من شخصيّات بيت لحم
التّقليديّة في تلك الآونة".
وحين كانت فدوى طوقان تشعر بالدّفء في فراشها (رحلة
جبليّة. صفحة 109) كان جبرا ابراهيم جبرا يمشي حافيًا على البلاط البارد الّذي
يلسع الأقدام. والأقدام دائمًا عارية، في المدرسة، وعلى الطّريق، لتعذّر شراء
الأحذية. وكان شراء الحليب في هذه العائلة حدثًا مهمًّا لأنّ أمّه "تقول لا
قدرة لها على شراء الحليب إلاّ في المناسبات وعند الضّرورات". وحين يصف
الطّفل طعامه من قطعة خبز وزرّ بندورة، يسمّيه "غداء بائسًا".
أمّا الحصول على دفتر وقلم، في أوّل سنة دراسيّة، فتطلّب
رجاء وتوسّلاً. ولولا الجدّة الحنون لما استطاع الطّفل جبرا الحصول على "نصف
قرش مدوّر مثقوب" لشرائهما.
وتتوالى مشاهد الفقر والحاجة أمام عينيّ هذا الطّفل،
ولعلّ أشدّها إيلامًا مشهد والده وهو يقتطع قطعتين من إطارة مطّاطيّة ويجعلهما
حذاءين يربطهما إلى كاحليه بالحبل، ولمّا لم يفهم الصّبيّ لماذا هذا العناء،
ولماذا لا يشتري والده حذاء، أجابه الوالد المزهوّ بما صنع: "عندما تكبر،
تفهم".
ومن المشاهد المؤلمة، مشهد أمّه المريضة تساوم الطّبيب
الرّوميّ على تعريفة عيادتها، ومشهد جرف الثّلج عن سطح البيت، وصراع الوالد لإزالة
خطر الانهيار عن السّقف.
ولعلّ المشهد الّذي لا ينساه قارئ الكتاب ـ فكيف ينساه
من عاشه ـ هو مشهد هديّة عيد الميلاد. تلقّى الطّفل جبرا زوجًا من الأحذية من
نوع "البوتين" هديّة من إحدى
المؤسّسات الإنسانيّة، وإذا بالوالدين يتّفقان على بيع الحذاء لتأمين حاجات
العائلة، وعوّضت الوالدة الصّبيّ المحروم بحذاء مرقّع من حارة اليهود.
ويقول جبرا: "لسنوات بعد ذلك، كلّما جاء عيد
الميلاد، كنت أتذكّر ذلك البوتين الّذي لم ألبسه، ثمّ لا ألبث أن أنساه في غمرة
أفراح العيد ـ أو في غمرة الأشجان الّتي كان العيد في بعض السّنين يجيء بها
قاسيًا، ودون رحمة".
وفي السّيرة الذّاتيّة لميشال عاصي "من أيّام
الضّوء والظّلام" نقرأ مجموعة من العناوين، تختصر طفولته المحرومة:
"تقشّف وعوز"، "أزمة حذاء"، أزمة ثياب"، "كتب
مستعملة وورق كدش".
وتحت عنوان "قصّة التّفّاحة وآلام آدم"، يروي
الكاتب كيف إنّه لم يعرف طعم التّفّاح إلاّ "في حوالي العاشرة من العمر أو
أكثر"، والأمر أغراه بسرقة تفّاحة من أحد المحلاّت، وسوء حظّه أوقعه بين يدي
صاحب المحلّ الّذي أطبق عليه باللّكم والضّرب.
ومن يتابع هذه السّيرة يعرف معاناة ميشال عاصي في الجمع
بين الدّراسة والعمل لتأمين حاجيّات العائلة، واضطراره إلى التّوقّف عن الدّراسة
سنتين كي يعمل على سيّارة أجرة.
في المقابل، تختصر ليلى عسيران وضعها الإجتماعيّ في
"شرائط ملوّنة من حياتي" بهذه العبارة: "عائلتنا الّتي توصف بأنّها
"مهمّة" في البلاد". وفي أحضان هذه العائلة المهمّة، كبرت الفتاة،
وحيدة والديها، في جوّ من الرّفاهية: خدم ودمى ومدرسة محترمة وسفر ومصيف...،
ولأنّها لم تعرف معنى العوز، كان الفقر مغامرة تستحقّ التّوجّه إليها والكتابة
عنها، وكأنّها عالم جديد وجذّاب، دون أن ننسى إنّ الفقراء الّذين ذكرتهم في كتابها
ثوريّون غالبًا، أبطال، مناضلون، وغلبت هالة البطولة عليهم فصار فقرهم مقبولاً بل
منسجمًا مع بطولاتهم.
يقول أحد الشّعراء: إنّ الرّجل يريد الوصول إلى مركز
إجتماعيّ من طريق الأدب، والمرأة تريد الوصول إلى الأدب من طريق المركز الإجتماعيّ،
أو الأقلّ، بعد استقرار الوضع الإجتماعيّ.
أيمكن أن يفسّر هذا القول السّبب الّذي يجعل إنتاج
الأدباء الرّجال عامّة أكثر غزارة وتواصلاً، حين إنّ مزاجيّة المرأة واطمئنانها
إلى موقعها الأجتماعيّ الموروث يجعلانها قليلة الإنتاج الأدبيّ ـ في شكل عامّ
أيضًا ـ ميّالة إلى إقامة التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة؟
ويهمّني أن أذكر هنا إن لا أحد يقدر على تحديد مسار
طفولته، وإنّ هذه المقارنة لا تهدف إلى تحميل "ذنب" الغنى والتّرف لأحد،
كما لا تهدف إلى المؤاساة المجّانيّة لطفولة محرومة. ولكن ملاحظة هذا الفارق
الإجتماعيّ ما كانت لتمرّ دون تسجيل.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "النّهار" الجمعة 29 تمّوز 1994
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق