الأحد، 1 أبريل 2018

كان يجب...



كان يجب أن أتعثّر وأعانق الأرض كي أعثر عمّا أبحث عنه! كان يجب أن "أتفركش" بأسئلتي لأجد الأجوبة!
في اليوم الأوّل من الصوم الخمسينيّ الكبير، في اثنين الرماد الواقع فيه 12 شباط من العام الميلاديّ 2018، يوم ندعى لتذكّر "أنّنا تراب وإلى التراب نعود"، وقعت... وقعت في فخّ الركض والسرعة، زلّت بي قدم (مشلولة منذ الصغر)، فهويت وانتهيت مطروحة أرضًا، مكسورة الساق،  غائبة عن وعيٍ ما انفكّ يؤرقني مذ اكتشفت أنّ قدمي لا تسير بسرعة عقلي!
وفي 14 شباط، يوم عيد العشّاق، كنت أخضع لعمليّة جراحيّة، محاطة برجال غرباء، أحتفل معهم بمناسبةٍ كنتُ على الأرجح سأمضيها وحيدة!
اليوم، مع انتهاء الصوم الكبير، والاحتفال بالقيامة، واقترابي من احتمال العودة إلى المشي، ولو بعَرَجٍ اعتدت عليه (على الرغم من العمليّات الجراحيّة)، أجدني أقوم من عثرتي وقد عادت إليّ بعض معرفة، اختفى قسم كبير منها تحت ضغط العمل، وطبقات التعب اليوميّ، وازدحام الناس على طرقات الحياة الضيّقة، وأوهام صداقات تشبه أطياف الصحراء.
مرّت آحاد الصوم، وشفي أعمى العينين ومخلّع الأطراف وأبرص الجسم ومنزوفة الدم، وعاد الابن الضال، وما بين فرح العرس في قانا، ومهرجان الشعانين في أورشليم، وما بين الألم والصلب والموت والقيامة، كانت الأفكار التي ظننتها تبلورت، والمشاعر التي اطمأننت إلى أنّها هدأت، تعود بزخم البدايات وحكمة النهايات لتطلب منّي حسم أمورها.
كان يجب أن أقع على الأرض لأعرف كم أنّ ذلك أسهل من الوقوع في الحبّ والخيبة، وأنّ كسر الساق أخفّ وطأة من كسر الخاطر!
كان يجب أن أقع على الأرض لأعرف كم أنّ الأرض حنون، لا تتردّد في حمل وقوعك وتحمّله!
كان يجب أن أقع على الأرض لأعرف أنّ الإعاقة الحقيقيّة هي حاجتك إلى الآخرين!
كان يجب أن أقع على الأرض لأعرف من هم الأصدقاء الذين قد أتّصل بهم لأطلب منهم اصطحابي في نزهة تبدّد عن القلب عتمته!
كان يجب أن أقع على الأرض لأنظر إلى السماء، وأراقب مرور الوقت، وأرصد تفاصيل المكان!
لتعود إليّ ذكريات الطفولة المجروحة، وألّا مهرب من رائحة المستشفيات!
لألاحظ أنّ وقوعي تحت المطر لا يمكن أن يشبه تزحلق فيكتوريا بكهام على التزّلج، لا في ظروفه المحيطة، ولا في أسبابه أو نتائجه!
لأكتشف أنّ كثيرين من العُوّاد يزورون المريض ليجدوا من يصغي (مجبرًا) إلى تاريخ أوجاعهم وذكريات أمراضهم، لا ليصغوا إليه!
لأنتبه إلى أنّ الناس يقومون بواجبات زيارة المريض لا رغبة في التخفيف عنه ولكن حرصًا على صورة الواجب الاجتماعيّ!
لأستمع إلى بعضهم يخبرني أنّ زيارته لي هي زيارة لأهلي، لأنّ أهلي (أي ليس أنا) لا يُكافأون على لياقتهم وواجباتهم!
ليقال لي أنّ العمل لن ينتظرني كثيرًا، وأنّني لست أمًّا أنجبت طفلًا ولها حقّ عطلة الأمومة، أو مُرْسَلة موفدة في زيارات وسفرات هي من ضروريّات الوظيفة، وأنّ أحدًا لم يطلب منّي ساعات إضافيّة مجّانيّة كي أعتبرها تعويضًا عن التغيّب!
لأختبر كيف أنّ نشر صورتي مبتسمة على مواقع التواصل يكفي، فلا يعرف آلاف الأصدقاء من عالم الافتراض أنّني تحت تأثير المسكّنات!
لترافق مرحلة استشفائي أصوات الأنين، وأوجاع المنازعين!
لأستعيد معرفتي بضحالة الشهرة المخادِعة، وهباء المراكز الآنيّة، وهشاشة الإنسان المملوء قيئًا وقيحًا وخراء وبَوْلًا ومخاطًا وضراطًا وبلغمًا، والممتلئ كذلك حبًّا وصلاة وشعرًا وضحكًا وبكاءً وموسيقى ورقصًا ورسمًا... 
نعم، كان يجب أن أقع لتقع بوقوعي أقنعة كثيرة، أوّلها ما وضعته الأيّامُ على بصري وبصيرتي، فمنعتْ عنّي الرؤية بدل أن تمنع الآخرين عن رؤيتي: فلم أر أنّ الأنانيّين متشابهون (رجالًا ونساء ومن مختلف فئات الدم والأبراج)، وأنّ الناس لا يتغيّرون (مهما ادّعوا وحاولوا)، وأنّ الإنسان حين يقع يقع وحده ولو كثر مسعفوه وعُوّاده!
نعم! كان يجب أن أقع، فثمّة دائمًا مكانٌ لجرح جديد، غير ذاك الذي خاطه الطبيب ورآه الناس! 

هناك تعليق واحد:

Lobna Ahmed Nour يقول...

كم هذا مؤلم! عساكِ بخير

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.