أحلم
بالمساواة بالزّمن
"مهما تشاءم المرء أو تفاءل في شأن ما يكتب، فإنّ
الكلمة تأتي انبثاقًا من الأعماق. كانبثاق الماء من الصّخر، لا بدّ أن يشق له
مجراه".
(جبرا ابراهيم جبرا ـ معايشة النّمرة)
"هناك أيضًا عبقريّة قراءة. لا تنس".
(أنسي الحاج ـ خواتم).
لم أكن أعلم إنّ إثبات الوجود في الوسط الثّقافيّ يحتاج
إلى صورة شمسيّة، وبطاقة هويّة، وشهادة من مختار المحلّة مع توقيع شاهدين، وسجلّ
عدلي، وشهادة طبّيّة، ووثيقة معموديّة، ربّما، كرمى لعين الطّائفة.
كنت أعتقد أنّه يكفي أن أفكّر لأكون موجودة.
كنت أعتقد أنّه يكفي أن أقرأ وأكتب ـ في محيط عربيّ
تسيطر عليه الأميّة ـ لأكون موجودة.
ولكن، يبدو إنّ الأمر "رسميّ" أكثر من ذلك، ولا
أستطيع أن أجبر الآخرين على الإعتراف بوجودي إلاّ إذا قدّمت الوثائق المطلوبة.
كنت، قبل اليوم، أؤمن إنّ "التّربة"
الثّقافيّة ترحّب بأي زهرة تنبت فيها، لأنّ ذلك دليل على خصب تلك التّربة
وحيويّتها. عزّز إيماني هذا كلام قرأته لعصام محفوظ تحت عنوان "الشّهيد إبن
البلد": إنّني أحيّي كلّ من ينتفض أيضًا بالحياة في زمن الموت"(1).
ولكنّي كنت مخطئة ولم يكفّ نبض الحياة فيّ ليؤكّد للنّاس
إنّني موجودة، فرسموا علامة استفهام كبيرة أمام إسمي.
كنت أثق قبل اليوم، إنّ ما تعلّمته وقرأته وحفظته خلال
سنوات سيكون لي خير زاد في رحلة الثّقافة الممتعة. وستكون ذاكرتي أفضل دليل لي في
تعرّجات هذا العالم المجهول ومتاهاته. وزاد من ثقتي هذه كلام لعصام محفوظ أيضًا،
تحت عنوان: "ذاكرتك بيضاء، أتريدين إفراغ الحياة": "لا شيء يغيب عن
الذّاكرة، فكيف تصدّقين إنّك تستطيعين تفريغها. أتريدين تفريغ الحياة؟"(2).
ولكن ما تحمله ذاكرتي لم يكف أيضًا لإثبات حقيقة
وجودي... وازداد شعوري بالغربة.
كنت أعتقد، قبل اليوم، إنّ الأسئلة الّتي أطرحها حول الوطن
والحياة والحبّ، والشّعر والموت، ومحاولة الإجابة عنها تكفي لتقول إنّي أفكّر،
وتاليًا أنا موجودة. وجاء كلام عصام محفوظ ليؤكّد، مرّة أخرى، اعتقادي:
"- لكن أي دور أستطيعه لك؟
-
أي دور يساهم في إنقاذ وطني؟
-
أن تحمل بندقيّتك وتذهب إلى الجنوب لتحارب العدو الّذي استغلّ
الجميع ضدّ الجميع.
-
لا أستطيع حمل السّلاح، قلت. إنّي مثقّف. أريد دورًا
يتناسب مع إمكاناتي.
-
لكنّك تقوم بهذا الدّور.
-
كيف؟
-
مجرّد السؤال عمّا جرى ويجري في هذا الوطن"(3).
ولكن الوسط الثّقافي لم يقبل أسئلتي ومحاولات الأجوبة،
ولم يرض باحتجاجي بكلمة عصام محفوظ. ورفض الإعتراف بي.
وعندما قرأت لعصام محفوظ تحت عنوان: "يهمّنا أن لا
ندفن تحت أنقاض الأمبراطوريّة" هذه العبارة: "لذلك لم أكن أبالغ عندما
قلت بأنّنا، ربّما، على عتبة ألف سنة جديدة من الانحطاط"(4)، أردت أن أقول
له: لا تيأس، نحن هنا. نقرأ ونفهم ونثق بأنّ فينا كلّ حقّ وخير وجمال، ونقول معك
ما قلته لنصري صايغ: "الإنسان عبر فنّانيه الملتزمين قضيّته، كان يعرف دومًا
كيف يلتفّ على المستحيل، وغالبًا كان يعرف كيف ينجح"(5).
ولكن الشّكوك الّتي حامت حول هويّتي منعتني عن الكلام...
فسكتت.
وحين دعا اتّحاد
الكتّاب اللّبنانيّين إلى ندوة تحت عنوان: "المقاومة الوطنيّة اللّبنانيّة
وثقافتنا العربيّة المعاصرة"، سأل عصام محفوظ: "هل يمكن إيجاد تشكيلات
ثقافيّة جديدة متنقّلة تقيم ندوات مفتوحة في مختلف السّاحات الشّعبيّة، في كلّ المناطق
مع أوسع شرحات قابلة للحوار"(6). وأردت يومذاك أن أجيبه مطمئنة: "نعم،
هذه التّشكيلات الجديدة موجودة وحاضرة، وتنتظر السّماح لها بالعمل لأنّها تؤمن معك
أنّ "الأمل معقود على الثّقافة بالذّات كنقطة لقاء جامعة" وهي، أي
الثّقافة أكثر عوامل التّوحيد قوّة"(7).
ولكنّي، ما إن
رفعت صوتي، حوصرت بالأسئلة عن هويّتي وانتمائي، ففوجئت وخجلت كمن ارتكب إثمًا...
وسكتت.
أستاذ زاهي
(وهبي)
إنّ أيّ شكّ، ولو
عابرًا، في وجود طاقات فكريّة وإبداعيّة
عند شعبنا هو شكّ في قدرة هذه الأمّة على تخطّي حالة الجمود الّتي تكبّلها، وإلاّ
فما نفع الكتابة، ولماذا الشّعر والمسرح والفنّ والفكر إذا كان من تتوجّهون إليه
جثّة هامدة لا حياة فيها؟
إذا قالت إسرائيل
عنّا إنّنا شعب لا يقرأ، فلا يعني هذا أن نصدّق، ونتعامل بعضنا مع بعضنا بموجب هذه
المقولة.
وإذا قالوا عنّا
أنّنا شعب متخلّف فقير، فلا يعني هذا أن نتاجر بتخلّفنا وفقرنا ونمدّ يدنا
للتّسوّل.
وإذا شككوا في
هويّتنا فلا يعني هذا أنّنا غير موجودين، بل يعني أنّ الآخرين لا يعرفون قدراتنا
وما فينا من قوى فاعلة. وما علينا سوى أن نثبت لهم خطأ شكوكهم.
أمّا قضيّة
التّأنيث والتّذكير الّتي أشارت إليها ليلى سليمان(8) فخطيرة وجارحة. هل يمكن أن
يكون الحقّ معها؟ هل هم يستغربون وجودي لأنّه وجود أنثويّ فقط؟ ولو كان التّوقيع
لرجل، ولو مجهولاً، أما كان أثار "الشّكّ والرّيبة"؟ وليلى سليمان
نفسها، على ما قيل لي، غير معروفة في الأوساط الثّقافيّة. فهل هذا يعني أنّها
"مزيّفة"؟ وهل هذا يعني إنّني وليلى شخصيّتان وهميّتان اخترعهما زاهي
وهبي لإثارة "الحياة الرّاكدة" كما يظنّ البعض؟".
قد يكفيك يا
أستاذ زاهي أنّك تعرف، وتعرف أنّني صرت أعرف، إنّ الحياة في الأوساط الثّقافيّة
"ليست مكسبًا بل مشقّة" و"ليست "وجاهة" بل دعوة إلى
العمل". ونعرف كلانا، إنّ الّذين يشككون الآن ووجهوا في بدء حياتهم
"الثّقافيّة" بشكوك وأسئلة وتحدّيات.
وإلى هؤلاء
المشكّكين أقول: أسماؤكم هي الّتي رافقتني مذ تعلّمت أن أحمل كتابًا أو صحيفة
للمطالعة، وفكركم هو الّذي أرشدني مذ حملت القلم وكتبت، وثقافتكم هي الّتي فتحت لي
باب الثّقافة اللّبنانيّة والعربيّة والعالميّة. وأنا لا أهدف، عندما الآحظ وأكتب،
إلى الإساءة إلى صاحب الإسم، بقدر ما أعتقده إساءة إلى الثّقافة نفسها.
وكم هو مؤلم أن
أعرف إنّ الكتابة إلى زاهي وهبي تعني ـ تلقائيًّا ودون معرفة مسبقة ـ إنّ فلانًا
أو فلانًا من الشّعراء والنّقّاد سيسجّلني في خانة أعدائة.
ولكن يكفيني
أنّني أحلم بزمن المساواة، أم هي أحلام مبالغ فيها أن يتمنّى الواحد من جيلنا أن
يقول عن نفسه ما قاله الأستاذ عصام محفوظ في مقدّمة كتابه "الموت
الأوّل": "والآن، بعد مرور خمس عشرة سنة، أتطلّع ورائي وحولي بحبّ لأجد
كم استطاع صوتنا أن يصل بعيدًا".
ميّ م.
الرّيحاني
جريدة
"النّهار" الجمعة 1 تمّوز 1994
1-
"النّهار" – الأحد 31/ 3/ 1985.
2-
"النّهار" – الأحد 23/ 9/ 1984.
3-
"النّهار" – الأحد 20/ 1/ 1985.
4-
"النّهار" – السّبت 18/ 12/ 1993.
5-
"النّهار" – السّبت 26/ 2/ 1994.
6-
"النّهار" – الإثنين 18/ 10/ 1985.
7-
"النّهار" – الأحد 12/ 5/ 1985.
8-
"النّهار" – الجمعة 17/ 6/ 1994.