|
بيروت في ستينيّات القرن الماضي |
2015
كيف
لا أعشق رجلًا إن حدث وجرحته بكلمة، يحضنني ويسألني إن كان الجرح يؤلمني؟
***
2014
حين ينكسر الصوت
حزينًا ومكسور الصوت، هكذا
يكون صديقي حين يغوص في عوالمه الداخليّة باحثًا عن الأجوبة التي تريح. ولكنّ ذلك
غالبًا ما كان يدفعني إلى الندم، فأروح في محاكمة صارمة لا عدالة عندها ولا أحكام
تخفيفيّة، أتّهم فيها نفسي بالتسبّب عمدًا، وعن سابق تصوّر وتصميم، في دفع هذا
الرجل الجميل إلى مطارح سحيقة، تترك على وجهه خطوطًا تشبه علامات الاستفهام.
وحين كان يغيب في غيابه، كنت أكتشف في
نفسي شوقًا ملحًّا إلى صوت الحياة يتفجّر من حنجرته، وأعد نفسي بالتوقّف عن طرح
الأسئلة، والامتناع عن إثارة الموضوعات الغامضة،
والتخلّي عن رغبة لا تفارقني عادة في جرّه إلى حوار لا نعرف إلى أين يقودنا. أقرّر
في كلّ مرّة ن اكتفي بالحديث عن الطقس والتلفزيون والسياسة، لكنّ المهم ألّا ينكسر
الصوت وألّا تذبل النظرة وألّا تهدأ نبضات الكلام.
رحلته
الداخليّة قد تطول أيّامًا، يعود منها غالبًا وهو تعب. إنّما حصل في مرّات كثيرة
أن عاد متوهّجًا ومشعًّا كخاتم الخطوبة. وكان عند ذلك ينطلق مدافعًا عن مواقف
اتّخذها، ومستعيدًا كلمات قالها، ومبشّرًا بأفكار خطرت على باله. كأنّما رحلته تلك
زادته قناعة بخياراته الفكريّة وميوله العاطفيّة ورغباته العطشى دائمًا إلى إرواء ظمئها.
أمّا
عندما يرزح تحت ثقل الإحساس بالخطأ الذي ارتُكب، فكان يعمل جاهدًا كي يصفح – عن
نفسه أو عن الآخر – ثمّ يكتشف أنّ النسيان أسهل بكثير. ولكنّي أعترف بأنّه غالبًا
ما أجبر نفسه على اختيار الحلّ الأكثر صعوبة. وهنا فرادته.
(من
كتاب رسائل العبور)
***
الشعراء
المسيحيّون والعشق وداعش
الخوف على المسيحيّين المشرقيّين لم يكن مزحة في يوم من
الأيّام. وحين نشرت كتابي "الموارنة مرّوا من هنا - بألم ماري القصيفي"،
كنت أعرف أنّ الخطايا التي ترتكب في الطائفة المراهَن عليها ستكون يومًا خطأ
قاتلًا في حقّ الطوائف المسيحيّة الأخرى وغير المسيحيّة. ولعلّ خطيئة المارونيّ
الأولى والكبرى والخطيرة أنّه لم يجرؤ يومًا على العشق، العشق البشريّ، بلا قيود
أو موانع أو شروط أو مخاوف أو محاذير... العشق المعلن الطبيعيّ المجنون الذي لا
يقتل الجسد ولا يحرم النفس ولا يكبت المشاعر ولا يغسل الدماغ ولا يخجل من النظر في
وجه الله.
أنا لا أعرف شاعرًا واحدًا مسيحيًّا لبنانيًّا يمكن القول أنّه
عشق بصدق وجرأة وشجاعة! هل تعرفون؟ اذكروا لي اسم واحد منهم أحبّ فعلًا وترك كلّ
شيء ليلبّي نداء القلب! جبران النسونجيّ وحبيب لبنان؟ سعيد عقل أسير أمّه والعذراء
مريم؟ الياس أبو شبكة التائه بين غلوائه وحبيبته؟ أنسي الحاج عاشق فيروز ونفسه؟
صلاح لبكي؟ فؤاد سليمان؟ ميشال طراد؟ عاصي الرحباني؟ يوسف الخال؟ أمين نخلة؟ مَن
منهم تحرّر من صلبه على خشبة المسيح ولبنان ليقول نعم لامرأة واحدة وجد فيها
المسيح ولبنان؟ أنا لا أعرف اسمًا واحدًا في هذا الوطن، فهل أجزم وأقول ولا في
المشرق العربيّ كلّه؟
بين الخوف على المصير، والتأثّر بالتيّارات الأدبيّة الأجنبيّة،
تلقّط الشاعر المسيحيّ بروحانيّة المسيح وجسد الوطن، فضاعت المرأة من يده وتاه هو.
لتبقى القصيدة شاهدة على التشظّي والتشرذم والتفتّت بحثًا عن فردوس مفقود كان يمكن
أن يكون بسهولة حضن امرأة، امرأة هي مزيج من العذراء والمجدليّة، لا واحدتهما على
حساب الأخرى. ومن لا يجرؤ على عيش حبّ كهذا كيف له أن يكون مثقّفًا ثائرًا منتفضًا
مقاومًا مغيّرًا؟ بل كيف يمكن أن يكون متصالحًا مع نفسه ومع العالم؟ بل كيف يمكن
أن يكون نصّه أكثر من مجرّد استظهار يدرسها التلامذة أو قصيدة يشيد بها الدارسون،
أو مدرسة في السبك والبلاغة والبيان يقلّدها الآخرون، أو تيّارًا شعريًّا يؤسّس
لمرحلة في الأدب لا في الحياة؟
قد يقول أحدكم ولكن عند غير المسيحيّين قد يصحّ الأمر نفسه!
ربّما، لكن لأسباب أخرى تتعلّق بالحريّة والانفتاح والتفلّت من الرقيب، ولأنّ غير
المسيحيّ لم يشبّه نفسه بمسيح مصلوب ولم يطلب من المرأة أن تكون عذراء تشبه أمّه
التي تشبه بدورها العذراء.
واليوم، في مواجهة داعش، التي وللغرابة لا تقتل المسيحيّين بل
تبعدهم في عمليّة مكشوفة للفرز الطائفيّ وتقسيم المنطقة، اليوم، لا يجد الشعراء
"المسيحيّون"، وإن كانوا ملحدين أو علمانيّين، سوى الدعوة إلى الجنس
والعريّ والإلحاد، من دون أن يكتبوا نصًّا واحدًا يحرّك المجتمع ويقوده نحو خلاص
ما. الشعر هو القائد، ولا قيادة من دون شغف أو جرأة أو تفلّت من قيود الفكر لا
ملابس الجسد، وإن كان الزيّ مؤشّرًا لنوع من التفكير.
الشاعر المسيحيّ لم يرد أن يعشق سوى مريم العذراء لكنْ عينه
كانت دائمًا على المجدليّة فبقي واقفًا عند باب القبر، مشاهدًا لا شاهدًا. ولم
يرغب في التشبّه إلّا بالمسيح، لكنّه لم يحمل صليبًا ويتبعه إلى كهوف النسك
والتبتّل فبقي قابعًا أمام مغارة الميلاد خروفًا لا راعيًا.
اليومَ، في عصر داعش والخليفة وقطع الرؤوس، لا زعيم مسيحيًّا -
دينيًّا أو سياسيًّا أو عسكريًّا - يمكنه أن يطمئن المسيحيّين الذين التصقت بهم
صفة الأقليّات وما كانوها يومًا. اليومَ لا شاعرَ يعشق امرأةً ويقول لها: إنت لستِ
أمّي، ولستِ مريمي، ولستِ بلادي، لكن أنت امرأتي التي من أجلها تصالحت مع أمّي،
وبسببها عرفت من هي مريم، وفي جسدها صار لي وطنٌ وبيت. اليومَ، لا أمل أمام
الفتيات المسيحيّات سوى أن يزينّ أصابعهنّ، على مثال جدّتهنّ أليسار، بخواتم
مرصّعة بحبيبات السمّ، ينتحرن بتناولها للخلاص من حياة لا شعراء فيها ولا رجال.
***
أرخصُ
مسبحٍ لهذا الصيف بحرُ دمائنا
نحن المذبوحين بدم بارد
***
2012
1- الشجرة العارية التي جلس عند جذعها أستراغون وفلاديمير بطلا
مسرحيّة "في انتظار غودو" هي ما كان ينتظره الرجلان لو نظرا ورأيا. كان
الرجلان موعودين بالمنتظَر الذي كان يعطي إشارات متباعدة إلى أنّه آت حتماً، ومع
مرور الوقت، كان الانتظار يتحوّل مكانًا آمناً يخشى الرجلان الخروج منه لئلا يقعا
في الفراغ، وصار الانتظار العقيم بديلاً من الشجرة التي كان ممكناً أن تكون خضراء
مثمرة ظليلة لو انشغل المنتظران بتقليب تربة أرضها وتشذيب أغصانها وريّها، وهي
التي لا تزال تحمل في نسغها بعض حياة. وهل يمكن أن تكون الشجرة استعادت الحياة في
الفصل الثاني من المسرحيّة بعدما روتها أخبار الرجلين وحكاياتهما، عوضاً عن الماء،
بالكلمات/ الأسئلة/ الشعر؟ وهل الرواية نوع من الريّ؟
*****
2- انتظار القطار أوصل القطار في مسرحيّة "المحطّة" للأخوين
رحباني، ربّما لأنّ المنتظِر (بكسر الظاء) كان مستعداً للسفر، ولأنّ من بشّر بوصول
القطار يتجوّل على الطرق مبشّراً بالحلم، مؤمناً به، يسبقه، ولأنّ القطار المنتظَر
(بفتح الظاء) يحمل لا بدّ أكثر من مسافر، وينتظره أكثر من منتظِر.
*****
3- عنصران أساسيّان نصل إليهما إذاً: الحركة والجماعة. عند بيكيت جمود
وعند الرحبانيّين حركة (الحركة بركة). عند بيكيت رجلان قد يكونان رجلاً ومرآته، لو
كان معه امرأة لانتظرا طفلاً وكوّنا مجتمعًا وهذا ما لا يؤمن به بيكيت، وعند
الرحبانيّين قرية وعيد ولصوص ومتسوّلون وزوجات أي كلّ ما يمكنه أن يكوّن مجتمعًا
(الجنّة بلا ناس ما بتنداس).
*****
4- من الأدب الغربيّ، وصلت إلينا حكايات الأطفال حيث تنتظر المرأة
وصول المخلّص: سندريلاّ انتظرت الساحرة الطيّبة ولم تتعلّم خياطة الملابس، ذات
الجديلة انتظرت كي يطول شعرها ولم تتعلّم حياكة حبل، الأميرة النائمة انتظرت قبلة
الأمير ولم تفعل شيئاً لأنّها في كلّ بساطة كانت... نائمة. ولعلّ هذا ما يميّز
شخصيّة شهرزاد التي أتى خلاصها من رأسها وقراءاتها ومخيّلتها. في حكايات غربيّة
أخرى أمير/ضفدع ينتظر الحبّ، ومارد قبيح ينتظر قبلة تزيل عنه السحر الأسود وتعيده
شاباً وسيماً.
*****
5- الشرق ينتظر المسيح المخلّص، المهدي المنتظر، عودة الراحلين في
قمصان جديدة هي الأجساد المنتظِرة من يحلّ فيها لتنطلق في رحلة الانتظار من جديد.
في الشرق مجتمع كامل ينتظر نجمًا يقود الرعاة المساكين والبدو الهائمين، عيونهم
إلى السماء دومًا فضاعت الأرض.
*****
6- في معجم ألفاظنا اليوميّة ترد كلمة الانتظار في شكل لم نعد نعيره
اهتماماً: غرف الانتظار، انتظار المولود، انتظار الشفاء، انتظار الموت، انتظار قرع
الجرس في المدرسة، انتظار وصول المسافر، انتظار راتب آخر الشهر، انتظار سيّارة
التاكسي، انتظار الإشارة الخضراء، انتظار النادل في المقهى، انتظار نتائج
الامتحان، انتظار الحبّ، انتظار عطلة نهاية الأسبوع، انتظار عطلة الصيف، انتظار
جائزة نوبل... كأنّنا لا نفعل إلاّ الانتظار.
*****
Inbox (0) - 7 علبة البريد هي التي تغيّرت، الانتظار لا يزال كما كان مذ اختبرته
أوّل امرأة. لم تعد علبة البريد أمام الباب، بل في غرفة النوم قرب السرير. ليس
ثمّة خوف اليوم من أن ترصد الجارات الحسودات توقّف ساعي البريد أمام منزل الفتاة
حاملاً رسالة من حبيب غائب، أو في أن تلتقط عيونهنّ دمعة عالقة على هدبها حين تعرف
أن لا رسالة لها. صارت الرسائل تصل بسرعة البرق ومن دون صخب الرعد، ولكن الانتظار
لا يزال كما كان، تختلط فيه المشاعر وتولد خلاله الأحلام وتموت الرغبات. لا تزال
المرأة تنتظر، على رغم ثورتها وتحرّرها، أن يرسل إليها الرجل إشارة أو رسالة. ولا
يزال الوجع كما هو حين تبقى علبة البريد فارغة.
*****
8- بينيلوب لم تستقبل أوليس زوجها الذي انتظرته طويلاً، كان ذلك الذي
وصل رجلاً آخر أغرمت به، وصودف أنّه كان زوجها.
***
فوجئ
الأستاذ الجامعيّ حين اكتشف أنّ طلّاب الماجستير في كليّة الآداب، قسم اللغة
الفرنسيّة، لم يسمعوا بتولستوي، ولم يوحِ لهم اسمه شيئًا. وفوجئ المسؤول عن اللغة
العربيّة في إحدى المدارس بأنّ بعض مدرّسي اللغة لا يعرفون من هو فؤاد كنعان الذي
سمعوا باسمه عرضًا لدى نعيه واكتشفوا أنّه يكتب قصصًا. وفوجئت المسؤولة عن المكتبة
في إحدى المدارس بأنّ مجلّة أدبيّة تناولت موضوعًا سياسيًّا، ومنعت تداولها بين
الطلّاب إذ ما علاقة الأدب بالسياسة! وفوجئ الطلّاب الجامعيّون حين اكتشفوا أنّ
أستاذهم وهو أديب معروف لم يزر بعد
المطعم الذي افتتح قبل يومين، ولأنّه تأخّر عن القيام بذلك فلن يستطيع أن يعوّض
خسارته لأنّ مطاعم أخرى ستفتتح تباعًا ولن يجد الوقت لملاحقة مواعيدها.
لا أعرف لماذا يظنّ كثر أنّ الحياة في لبنان رتيبة الإيقاع
ومملّة، فالمفاجآت لا تنقطع، والدهشة التي تعيدنا أطفالًا في منتهى البراءة –
والجهل – موجودة في كلّ حدث أكان ثقافيًّا أو سياسيًّا أو حياتيًّا أو اجتماعيًّا.
فماذا نريد أكثر؟
***
قالوا
لي: صديقك ذكيّ!
قلت لهم: لو لم يكن ذكيًّا لما كان صديقي!
***
نم
يا صديقي وتنفّس بهدوء كي تنتظم دقّات قلبي
***
الحبّ
هو الحقيقة الوحيدة التي لا تنتظرنا كي نبحث عنها بل تفاجئنا حين لا نتوقّع وتقدّم
إلينا الأجوبة على كلّ أسئلتنا!