(2009)
يخيفني العقل البشريّ بقدر ما يثير فضولي وإعجابي ودهشتي. أخاف منه بقدر ما أخاف عليه.
حين التقيت الممثّلة المسرحيّة رضا خوري وراقبت ما كانت تفعله طيلة الوقت الذي أمضيته معها كنت أخشى أن تكون في كامل وعيها، ولكنّها أسيرة حاجز ما يمنعها من الوصول إلينا، كانت في مرحلة متقدّمة من مرض الإلزهايمر، وكانت والدتها العجوز هي التي تخدمها وترعى شؤونها وتتذكّر عنها. أمّا هي فكانت في عالم آخر. أحببت في ذلك اليوم أن أفكّر في أنّ رضا تؤدّي أحد أدوارها، وأنّها ستخلع عنها بعد قليل قناع التمثيل لتعود إلينا. في لحظة من اللحظات، شعرت أنّها تعرف ما يجري. فحين كانت والدتها تريني ألبوم الصور لمسرحيات ابنتها وأعمالها، تململت رضا في مكانها وأرادت النهوض، فساعدتها خادمة تساعد الأم المريضة في جسدها والابنة المريضة في عقلها. وبعدما انتصبت واقفة بعد معاناة توجّهت إلى غرفة نومها وهي تجرّ نفسها بصعوبة رافضة أن تبقى في مكانها، ثمّ عادت حاملة إليّ صورة فوتوغرافيّة لها كانت موضوعة قرب سريرها وتظهرها في أحد أدوارها المهمّة. كانت رضا تعرف في ذلك الوقت ماذا أفعل عندهم. وبالفعل نشرتُ الصورة مع التحقيق وقلت إنّها من اختيار رضا نفسها.
كان يدهشني دومًا في مرضى الألزهايمر ميلهم إلى الشتائم واللعنات على أقرب المقرّبين منهم. وكنت شاهدة على حال سيّدة مريضة لا تتوقّف عن الكلام البذيء والشتائم كأنّ لاوعيها يفرغ كلّ ما كان يحرّم عليه إخراجه. فجاء المرض وأطلق الأمور من عقالها.
بعيدًا عن هذا المرض، أذكر في كثير من الأسى تلك الشابّة التي وضعوها في غرفتي في المستشفى لأنّها كانت مصابة بنزيف. كنت صغيرة وخاضعة لعمليّة جراحيّة في رجلي تمنعني عن الحركة. وفي أوائل الليل، انفجرت أصوات القصف في مكان ما من بيروت، فتوتّرت أعصاب المريضة وخرجت عن إطار السيطرة. علمت فيما بعد أنّ المرأة كانت في مركز للأمراض العقليّة، وأتوا بها إلى هذه المستشفى لعلاج نزيفها. ولم يكن من المسموح أن يضعوها مع أحد.
في ذلك الوقت كانت الحرب تسمح بمخالفات كثيرة فهل سيهتمّ أحد بمجنونة موضوعة في غرفة واحدة مع طفلة.
أذكر المشهد كما لو أن الأمر حدث اليوم: كيف كانت تحضن المخدّة على اعتبار أنّها ابن أخيها الذي كانت تحبّه على ما يبدو بشكل مميّز، وتغنّي للمخدّة، وتقفز بها من زاوية إلى زاوية هربًا من قصف موجود في تلك اللحظة في رأسها فقط، إلى أن اختبأت تحت السرير وهي تصرخ.
ثمّ أخذت تقترب منّي لتخبّئني تحت الغطاء كي لا يطالني القصف.
لم تنفع محاولات الأطباء والممرضات في تهدئتها رغم الأدوية التي أعطيت لها والحقن. ولما لم يكن هناك مجال لوضعها في غرفة أخرى بقي طبيب وممرّضة طيلة الليل حاجزين بيني وبينها.
لا أذكر أنّني كنت خائفة منها، بقدر ما كنت أراقب ما يجري وأحاول أن أفهم. كان الدم النازف منها يملأ المكان ويلوّث ملابسها وفراشها وغطاءها ولم يكن من مجال لترتيب وضعها وتصحيحه قبل أن تهدأ. وكانت عيناي المفتوحتان ترصدان كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ نقطة دم. وساعدني الضوء الذي أبقوه مشتعلاً على تثبيت نظري عليها وملاحقتها في رقصة رعبها الطويلة والمرهقة.
في ساعات الفجر الأولى، غرقت المرأة النازفة في نوم عميق بعدما أعطى خليط الأدوية مفعوله أو بعدما تعبت. لا أدري. ولكن حين تمّ نقلها على سرير متحرّك إلى سيّارة إسعاف لإعادتها إلى المصحّ العقليّ كانت المرأة لا تزال نائمة. أهلها الذين أتوا لمرافقتها اعتذروا من أهلي عن ليلتي الصعبة كما وصفوها. وقالوا إنّ الحرب هي التي فعلت ذلك بها، وأنّها فعلًا متعلّقة بابن أخيها الطفل وتخاف عليه.
أعتقد أنّ ارتباط الجنون بالحرب وثيق، فالجنون يولّد الحرب والحرب تنتج الجنون. حلقة مفرغة يدور فيها الإنسان. ولهذا سيبقى العقل البشريّ بالنسبة إليّ أمام علامات استفهام وعلامات تعجّب لا نهاية لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق