على طرف بحمدون (تصوير يارا هبر)
كروم في بحمدون لن تعطي خمرة لأنّها بيعت (تصوير يارا هبر)
فندق صوفر الكبير
كروم في بحمدون لن تعطي خمرة لأنّها بيعت (تصوير يارا هبر)
فندق صوفر الكبير
بحمدون
كانت رائحة الأراكيل تملأ الصدور والأنوف. صدور المدّخنين الساهرين وأنوف المارّين العابرين. وكان ثمّ ستار شفّاف وهو مزيج من ضباب تعرفه المدينة ويلتصق بوجهها في شكل شبه دائم ولا ترفعه إلاّ لمن ترغب في الاستسلام له، ودخان يتسلّل بين أعمدة المقاهي الصيفيّة يفضح نهم المستسلمين والمستسلمات إلى متعة التدخين ولذّة السهر. ولكنّ المدينة الغارقة في العتمة المضاءة أو الإضاءة الحائرة كانت تبدو لمن يقترب منها كعجوز متصابية تكثر من المساحيق ولا تنجح في إخفاء عمرها الحقيقيّ.
في اللحظة التي رفع فيها الضباب ستائره توقّفت سيّارة كبيرة تحمل حقائب سفر كبيرة، ونزل الرجلان اللذان كانا يجلسان في المقعدين الأماميّين، واقتحما ببياض دشداشتيهما ظلمة المدينة. ثمّ التفتا إلى النساء والأولاد المكوّمين في المقاعد الخلفية يغالبون التعب والنعاس، وفجأة سبق أحدهما الآخر متسائلاً إن كانت المدينة لا تزال تستحقّ كلّ هذا العناء.
ليس ما أرويه حكاية وهميّة، بل هو كلام يصحّ في كثير من مدن الجبال اللبنانيّة وقراها بعدما تبدّلت صورة الاصطياف فيها إلى شيء آخر لم يتّخذ اسمه بعد ولا صفته، ولكنّه يفرض نفسه بعنف وإصرار. لا شكّ في أنّ ثمّة كميّات كبيرة من الحنين في ما يكتب عن دور كان للبنان ويرغب الكثيرون في استعادته. ولكنّ الحنين الذي هو مجرّد وقوف على أطلال زمن بائد وفوق رمال مكان متحوّل، يظهر كم من الصعب لا من المستحيل أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وأن نستعيد الألق الي أعطي لهذا البلد الصغير ولم يدم إلاّ لفترة تكاد لا تلحظ من عمر الوطن.
على مسافة قصيرة من بيروت مناطق اصطياف كانت منذ عهد الاستقلال وقبله مقصد المصطافين البيروتيّين والعرب. ثمّ مرّت الحرب عليها بأشرس أسلحتها وتركتها اشلاء وغبارًا. وها هي اليوم تحاول أن تنتفض وتستعيد شبابها على مثال طائر الفينيق السعيد الذكر والكثير الرماد. ولكن هذه المدن أشبه ما تكون الآن بعجوز زادتها الأيّام تشبّثًا بماضيها، تستعيده وتستحضره، ولكن لم تهبها السنون الحكمة لتفهم تحوّلات الزمن وتقلّبه.
عاليه وبحمدون وصوفر بلدات ذاقت طعم المجد والرفاه حتّى السكر، ثمّ دفعت ثمن أناقتها دمارًا وخرابًا، وها هي اليوم تستعدّ للدور الذي سيعطى لها كممثلّة قديمة منسية نفض الغبار عن صورتها مخرج شابّ كان يعشقها طفلاً. يقولون إنّ هذه البلدات وما يحيط بها لن تبقى قرى بل منتجعات سياحيّة راقية يغني الأثرياء عن الذهاب إلى أوروبا، ويقولون إنّ الفنادق ستحتلّ تلالها والقصور ستزهو فوق مرتفعاتها، ولأنّها قريبة من العاصمة لا داعي لإقامة أسواق تجاريّة فيها، يكفي أن تمتلئ بالمقاهي والمطاعم ليخرج إليها المصطافون في الأمسيات المنعشة.
إنّ البحث عن تاريخ الاصطياف في هذه المناطق تحديدًا يقودنا إلى حكاية واحدة هي حكاية بعض العائلات البيروتيّة الباحثة عن بعض الهواء البارد في بعض أمكنة الجبل. ولذلك فغالبًا ما نلتقي بالأسماء نفسها تنتقل بين المدينة والجبل مستفيدة من حيويّة الأولى وسكينة الثانية. وتحكي الكتب والسير عن هذه البلدات / المدن/ القرى/ بإعجاب واضح وتلتصق النعوت بكلّ منها معبّرة عن دور مميّز أجادت القيام به. وتقول الأخبار إنّ الفنادق والمقاهي والمنتزهات التي كانت تحتلّ الجزء الأكبر منها تخلو شتاء من الروّاد وتضيق بهم صيفًا. وبين انتظار الوجوه المطلّة ورحيل الحقائب الثقيلة تولد الحكايات وتنمو الطرائف والنوادر لتصير كلّها ذاكرة الجبل الذي يخشى عليه من عوارض الشيخوخة.
يقول أمين الريحاني في كتاب "قلب لبنان": " وهل في الجبل غير صوفر وعاليه للصحّة أو للراحة أو لشمّ الهواء أو للتفرّج على أعيان بيروت في لهوهم وعلى الكازينو مفخرتهم الكبرى؟". وهذا ما يؤكّده السفير نديم دمشقيّة في "محطّات من حياتي الديبلوماسيّة" حين يقول: "كان فندق صوفر يعتبر من أفخم الفنادق الصيفيّة في لبنان".
ولا تختلف صورة عاليه وبحمدون، ماضيًا وحاضرًا، عمّا كانت وصارت إليه جارتهما صوفر. صحيح أنّ بحمدون حديثة بعض الشيء بالنسبة إلى زميلتيها، ولكنّ محطّة القطار التي أقيمت فيها غيّرت اسمها ودورها، وصارت القرية، التي كانت تدعى "عين القرية" مدينة ضمّت في صباها نحو أحد عشر مطعمًا ومقهى وخمس دور للسينما وأكثر من ثلاثين فندقًا يصل عدد الغرف في بعضها إلى مئة وثلاثين غرفة.
أمّا عاليه فلا تعرف أن تلتزم صورة واحد، فهي مرّة مصيف أريستقراطيّ هادئ، ومرّة مجمّع سياحيّ صاخب، ومرّة مهرجان من الأصوات والوجوه والأسماء. ارتبط اسمها بكازينو "البيسين" وصارت مسارحها قبلة كبار المطربين والمطربات لا يبخلون عليها بالسهرات تمتدّ حتّى الصباح. كان فيها أكثر من عشرين مطعمًا ومقهى وما يزيد على ثمانية عشر فندقًا، فضلاً عن القصور والفيلاّت والشقق التي كان يتسابق على استئجارها القادرون على مستوى الحياة فيها من لبنانيّين وعرب.
الخريف يأتي باكرًا في هذه البلدات، والذين عرفوا طرقها وتآلفوا مع أشجارها يستطيعون أن يتخيّلوا الأوراق الصفراء يجمعها الهواء ويبعدها عن أذى الدواليب التي تدور ولا تبقي حالاً على حال. والذين يمرّون في العشيّات في الشوارع الخالية لا بدّ أن يستسلموا لخدر لذيذ يصيبهم وهم ينظرون إلى الغرف القليلة المضاءة التي تُضاعف من عتمة العتمة ولا تبدّدها. ولكنّ هذه اللوحة الجميلة لن تنسينا الصورة الحقيقيّة لواقع البلدات الثلاث ومصيرها المنتظر. فالزائر العربيّ الذي تساءل إن كانت المدينة الضبابيّة تستحقّ عناء السفر غادر الفندق مع عائلته بعد يومين من وصولهم. لقد كان الطقس حارًّا وازحام السير لا يحتمل وكذلك الغلاء، وأعلن أمام عامل الاستقبال إنّه لن ينصح أصدقاءه بزيارة لبنان. أمّا المدينة الضبابيّة فسكتت عن الكلام.
هناك 3 تعليقات:
أنسةماري
اسلوبك جميل، كالسهل الممتنع، والقراءة مشوقة وخاصة عندما تلعبين على الكلام، ولكن الأهم من ذلك إضاءتك على الماضي والواقع، وفيه واقعية أعجبتني في الحنين للماضي ولكن الواقع لن يتغير والحنين لن يعيدنا خطوة إلى الوراء. وللحديث تتمة.
فلنتعلّم من الماضي على الأقلّ ولنتعظّ منه لعلّنا نجعل المستقبل أفضل
أوافقك الرأي.
إرسال تعليق