نحاول في بلداننا العربيّة أن نعلّم تلاميذنا مبادئ الديمقراطيّة بدءًا من الدروس النظريّة في الصفوف وصولاً إلى الأعمال التطبيقيّة في الحياة. ولا يخفى على أحد أنّ هذه المحاولات لن تجدي نفعًا لأنّ تلاميذنا ما أن يخرجوا إلى العالم حتّى يكتشفوا فجأة أنّنا في واد والديمقراطيّة في واد آخر. وأسوأ ما في الأمر أنّنا نمارس الديكتاتوريّة والقمع ونحن نعطي دروسًا في الحريّة والمسؤوليّة والمشاركة في صنع القرار.
تجري منذ سنوات في لبنان محاولات لتقريب وجهات النظر عبر الحوار إن في وسائل الإعلام أو في الجمعيّات المدنيّة أو في المؤسسات الرسميّة، ولكنّها في أغلبها تدور في حلقة مفرغة وتقف دائمًا عند محاذير وممنوعات تارة بحجّة السلم الأهليّ وطورًا بحجة عدم المسّ بأسس الوفاق، وغالبًا بسبب الخوف من/ على الآخر.
وقد تكون الجلسة النيابيّة التي أجاب فيها دولة الرئيس نبيه بري، رئيس المجلس النيابيّ، على أسئلة تلاميذ على عدد نوّاب الأمّة، خير دليل على أنّ الديمقراطيّة لا تهبط على مجتمع ما من أعالي السماوات بل هي هدف يحتاج إلى الكثير من الصبر والوقت، وسترتكب خلال مسيرة الوصول إليه الكثير من الأخطاء. ومن يعرف كيف تمّ التحضير للجلسة مع تلاميذ لبنان، أو من تابع وقائعها التي نقلت مباشرة على التلفزيونات المحليّة، يكتشف أنّ التلاميذ كانوا يلقون أسئلتهم كما يلقون دروسهم في الصفّ، وأنّ الأسئلة تعبّر عن هواجس المعلّمين والمسؤولين في المدرسة وعن رأي الوالدين أكثر ممّا تعبّر عن رأي التلميذ نفسه. وخير دليل على ذلك الاضطراب والتوتّر اللذان كانا يصيبان التلميذ إن استوضح دولة الرئيس برّي طبيعة السؤال أو هدفه قبل الإجابة.
فإذا كنّا نملي على تلاميذ في الصفوف الثانويّة ما يقولونه في "جلسة نيابيّة" شبابيّة هدفها تعليم أسس الديمقراطيّة والعمل البرلمانيّ، فهل نعتب على هؤلاء إن أُمليت عليهم لاحقًا مواقف لا تنسجم مع مصلحة البلد؟ وكيف لا يكون نوّاب الأمّة غدًا من الذين يقولون ما لقّنوه كالببغاوات؟
حين سألتُ تلميذة شاركت في الجلسة عن السؤال الذي كانت ترغب فعلاً في طرحه تبيّن أنّ سؤالها الشخصيّ يعبّر فعلاً عن هموم جيلها وبلغة جيلها، وعندما سألتها ولماذا لم تطرحي هذا السؤال إذًا قالت في اقتناع: لا أجرؤ، ماذا يفعلون بي في المدرسة إن لم أطرح السؤال المتفّق عليه؟
التلميذة خائفة من النظام المدرسيّ، والمدرسة خائفة من هيئة المجلس التي أعدّت الجلسة، والهيئة خائفة من رئيس المجلس، ورئيس المجلس خائف من زرع الأوهام في رؤوس الشباب عن ديمقراطيّة مثاليّة لا وجود لها على الأرض.
لا شكّ في أنّ التجربة مثمرة ومفيدة وتترك ذكريات لا تنسى في أذهان التلاميذ (هل هذا هو المقصود من اللقاء؟)، وكذلك كانت تجربة الطلاّب الجامعيّين الذين استضافهم الرئيس ميشال سليمان في القصر الجمهوريّ عشيّة عيد الاستقلال. ولكن ما لم يتعلّم المسؤولون أوّلاً عدم الخوف من أبناء الوطن، وعدم الخوف من صورة واقعنا المنقولة عبر وسائل الإعلام، وعدم الخوف من الأسئلة التي تتخطّى البروتوكول وخصوصًا متى أتت من جيل شابّ لا خبرة له ويريد أن يتعلّم، فسيبقى المستقبل مرهونًا لمن يحمي هذا المسؤول من صراحة أبناء الوطن.
حين كنت أتابع الحوار مع دولة الرئيس برّي، وأشفق على التلاميذ الخائفين من سلطة المجلس وسلطة المدرسة وسلطة الكاميرا وسلطة العائلة التي تراقب من المنزل، تمنّيت لو أنّ دولة الرئيس يقول لهؤلاء المراهقين: مزّقوا هذه الأوراق واطرحوا عليّ ما تفكّرون فيه فعلاً، كما فعلت فيروز مع أهالي "جبال الصوّان"، حين صرخت بهم: خزّقولي هالتياب السود.
ولكن الحياة السياسيّة شيء والمسرح شيء آخر ...ولو جمعهما التمثيل.
24 تشرين الثاني 2008
هناك تعليقان (2):
"ولكن الحياة السياسيّة شيء والمسرح شيء آخر ...ولو جمعهما التمثيل".
منضربلك التحية يا ستنا.
اصيبتي " نافوخ"الحقيقة،
Moush hayenee
عجبتني كلمة "نافوخ" إجت بموقعها/الهيئة إنّو الحقيقة مضروبة ع نافوخها
إرسال تعليق