لم أعد أعرف هذا البلد. ولم أعد واثقة من أننّي ما زلت أقيم فيه
كما هو في الواقع، إذ يخيّل إليّ
أنّني صرت ابنة وطن غير موجود إلاّ في البال، ولن يبقى إلاّ هناك. أمّا هذا الـ"لبنان"
فهو أشبه ما يكون بامتداد طبيعيّ لما عرف قديماً بشارع المتنبيّ. وهو امتداد حصل في لحظة تشظّ
وقحة، إذ كان يكفي أن تتحدّ مصالح بعض رجال السياسة
مع مطامع بعض رجال الدين كي يصير لبنان ما هو عليه اليوم: يصلح لأن يكون أيّ شيء ألاّ أن يكون وطنًا.
فأيّ وطن هذا الذي يتعامل نصف أبنائه، بالفكر أو بالفعل، مع إسرائيل، ويعمل نصفه الآخر
لمصلحة سوريا، ولا أحد منهم يحبّ لبنان؟ وأيّ وطن
هذا الذي يؤمن بعض شبابه بأنّ تاريخه بدأ مع تأسيس وسط المدينة وأنّ جغرافيّته تمتدّ من مونو وتنتهي في الجمّيزة،
والبعض الآخر يؤمن بأنّ الموت في سبيل الأرض أجمل
من الحياة عليها والزراعة فيها والبناء فوقها؟
فلنسمّ الأشياء بأسمائها، ثَمّ عهر
في هذا البلد كسا بوقاحته وبشاعته وفجاجته كلّ شيء: السياسة والدين والتربية والصحافة والفنّ والطبّ والحياة الاجتماعيّة.
ويكفي أن تسمعوا ما يقوله المغتربون
الآتون من بلاد الحريّات لتعرفوا أنّ ما يرونه ويسمعونه في لبنان لا علاقة له لا بالحريّة ولا بالانفتاح ولا
بالتقدّم ولا بالحداثة. فهؤلاء يحملون أولادهم
وبناتهم بعد إقامة قصيرة في البلد ويهربون بهم عائدين إلى حيث توجد قوانين تخصّص للعهر شوارع وأمكنة وتترك للفكر
كلّ الشوارع وكلّ الأمكنة.
لا أدري إن كان ما يجري
على المسابح الخاصّة يوضع تحت خانة الرياضة أو الترفيه، ولا أعرف إن كان ما تنشره المجلاّت الإلكترونيّة عن
العلاقات الجنسيّة المدفوعة الثمن والشذوذ من ضمن التسويق لصورة لبنان السياحيّ، ولست
واثقة من أنّ ما يرويه سائقو التاكسي الذين ينقلون
ليلاً القاصرين والقاصرات من وإلى الملاهي الليليّة لم يصل بعد إلى مسامع المعنيّين، ولا أجزم بأنّ الموظّف الذي
يعيش أميراً مترفاً براتب لا يتعدّى الحدّ الأدنى
بكثير لا يعرف في قرارة نفسه بأنّه حرامي، ولا أظنّ أن النكات الوقحة التي يحفظها الأولاد من برامج تلفزيونيّة
ويتناقلونها تمتّ بصلة إلى التربية أو إلى حريّة
الإعلام.
ولكن ما أعرفه جيّداً هو أنّ هذا الشرخ الهائل بين الأصوليّات الدينيّة والإباحيّة على مختلف مستويات
مُتعها صار هوّة مخيفة ابتلعت العلوم والفنون
وكلّ إصدارات الفكر. وحين تتفلّت الغرائز الدنيا من روابطها وتميل نحو طرفي النقيض من كلّ جانب من جوانب حياتنا لا
يبقى مجال للنقد أو التحليل أو المنطق السليم.
نحن مجبرون دائماً على خيار من اثنين ولا مجال لثالث له حججه وبراهينه واحتمال صحّته: عون أو جعجع، الأصوليّة السنيّة أو الأصوليّة الشيعيّة، أميركا أو إيران، عملاء أو مقاومون، ورثة عاصي أو ورثة منصور الرحبانيّ، العري أو الحجاب، الوحي أو العقل، التراث أو الحداثة، الثابت والمتحوّل، معنا أو ضدّنا. كلّها بأسبابها ونتائجها أمور تستحقّ منّا التوقّف عندها في قراءة نقديّة واعية بعيداً عن الأحكام المسبقة والنتائج غير القابلة للنقاش. وكلّنا معرّضون للانحدار إلى درك غرائزنا حين نسكت العقل ونناقش إنتاجاته بمنطق المحرّم والمحلّل.
نحن مجبرون دائماً على خيار من اثنين ولا مجال لثالث له حججه وبراهينه واحتمال صحّته: عون أو جعجع، الأصوليّة السنيّة أو الأصوليّة الشيعيّة، أميركا أو إيران، عملاء أو مقاومون، ورثة عاصي أو ورثة منصور الرحبانيّ، العري أو الحجاب، الوحي أو العقل، التراث أو الحداثة، الثابت والمتحوّل، معنا أو ضدّنا. كلّها بأسبابها ونتائجها أمور تستحقّ منّا التوقّف عندها في قراءة نقديّة واعية بعيداً عن الأحكام المسبقة والنتائج غير القابلة للنقاش. وكلّنا معرّضون للانحدار إلى درك غرائزنا حين نسكت العقل ونناقش إنتاجاته بمنطق المحرّم والمحلّل.
وأكثرنا ممّن عاصر الحرب
اكتشف فيه ذلك الميل إلى لغة العنف حين جرّته لغة الآخرين إلى ذلك، ولم يكن يعرف أنّها فيه وأنّه يملكها. ولكنّ
التحدّي كان في ضبط هذه اللغة لتحويلها بطريقة ما
طاقة إيجابيّة فاعلة. الحياة قائمة على ثنائيّات، ولكنّ الحياة نفسها هي العنصر الثالث الذي يتكوّن من برمجة هذه
الثنائيّات بحسب مقتضى الأحوال. وما هو ملائم لواقع
الحال اليوم قد لا يكون كذلك غداً، وما يصلح لهذا المكان قد يكون مدمّراً لسواه، وما ينفع الإنسان في هذه الظروف
بالذات قد يؤذيه في ظروف مغايرة.
كم تبدو اللغة عاجزة حين تفشل في إيجاد توصيف لحالة كالتي نحن فيها، حتّى كلمة العهر تبدو في غير محلّها، لأنّ بعضنا يسيء إلى العهر نفسه حين يدّعي عكسه وهو يمارسه ولو خاشعًا في معبد، أو موجِّهاً فوق منبر، أو كأنّنا في استخدامنا الكلمة نهين من يعترف بكونه (ها) كذلك ويمارسه علناً وصراحة ونضمّه إلى قائمة من وصل إلى مرحلة مقيتة من الخبث جعلته يصدّق أنّه أفضل من سكّان شارع المتنبّي: قوّادين وعاهرات.
كم تبدو اللغة عاجزة حين تفشل في إيجاد توصيف لحالة كالتي نحن فيها، حتّى كلمة العهر تبدو في غير محلّها، لأنّ بعضنا يسيء إلى العهر نفسه حين يدّعي عكسه وهو يمارسه ولو خاشعًا في معبد، أو موجِّهاً فوق منبر، أو كأنّنا في استخدامنا الكلمة نهين من يعترف بكونه (ها) كذلك ويمارسه علناً وصراحة ونضمّه إلى قائمة من وصل إلى مرحلة مقيتة من الخبث جعلته يصدّق أنّه أفضل من سكّان شارع المتنبّي: قوّادين وعاهرات.
***
صحيفة النهار - الثلثاء 3 آب 2010
هناك 3 تعليقات:
موضوع جديد وشيق: ما يوجد في لبنان موجود في كل الدنيا ولكن هذا هو الفرق: في لبنان يعرضون على التلفزيون مشاهد اباحية فيراها الجميع، أما في الغرب فتمنع المشاهد الإباحية منعا تاما عن القنوات العامة، ويمكن لإي كان وضع دش خاص لها ويدفع الفاتورة كل شهر. في لبنان تعمل العاهرة على الطرقات العامة... في الغرب يجب أن تأخذ رخصة ولها أماكن خاصة ولا تتواجد في الأماكن العامة، والحساب عسير. في لبنان يشعل المدخنون سجائرهم في صالون المستشفى، وفي الغرب يخرج المدخنون إلى خارج المستشفى على مساحة يحددها القانون. أنا شخصيا لم أجد مخالفا، ولو وُجد لكان درسا لسكان كل الولايات.
حدث في ولاية ماساتشوستس الزرقاء أن ممثلهم في مجلس الشيوخ كان ديمقراطيا لمدة سبعين سنة لا يستطيع منازلته أحد، والولاية الزرقاء هي ولاية ديمقراطية. في هذه السنة انتخب الديمقراطيون جمهوريا عليهم لمعاقبة الرئيس الديمقراطي بسبب نظام الرعاية الصحية التي قال به مؤمنا مصاريفه من جيوب دافعي الضرائب...فاصابوا في الحزب الديمقراطي مقتلاً. أعني لا تستقيم الأمور بدون محاسبة وهذا غائب في لبنان كليا، لا يحاسب المواطن نائبه ولو خُرب البلد، لننتظر إذا من سيء إلى أسوء. وابكي يا "مي" على وطن قطعة سما.
نعم، المحاسبة يا بونا حنّا هي الكلمة المفتاح ، ونعم يا صديقي القارئ غير المعروفة هويّته، اللبنانيّون/ والعرب كذلك/ يأخذون من الغرب القشور لا الجوهر. وعبارة لكل مكان حرمته ولباسه وتقاليده وخصوصيّته وعمر مرتاديه، هذه العبارة لا يعرفها اللبنانيّ. لذلك كلّه مسموح بحجّة الحريّة التي ترتكب باسمها أبشع الجرائم.
إرسال تعليق