زحلة
حراجل
حراجل
غزير
حصرون
البقاع الأجرد والجنوب القاحل يقتربان من الجبل الشوفيّ الأخضر والشمال الخصب، في وقت يعمل أولو الأمر في الوطن على أن يصيّروه خنادق للسلاح ومنصّات للصواريخ وأراضي مزروعة ألغامًا، وأن يجمعوا المال للتسلّح لا للتشجير، وأن يشتروا الطائرات المقاتلة لا تلك التي تطفئ الحرائق، وأن يحرسوا الأرز بالبنادق لا بخراطيم المياه. ولا يبدو أنّ كثيرين في البلد على بيّنة من التغيّرات التي جعلت طبيعة لبنان على ما صارت عليه، وإلاّ لكان من أبسط الأمور أن يتمّ الإعلان عن حال طوارئ بيئيّة تدعو إلى تأسيس كتائب من الشبّان والشابات تعمل على حراسة الغابات والمياه كي لا نهدر الثانية في محاولات يائسة لإنقاذ الأولى، وفي كلّ الحالات الخسارة واقعة. ولكن لا شيء يوحي أنّ ثمّة معالجات جديّة في هذا الموضوع بدليل الاكتفاء ببعض الشعارات الإعلانيّة والأغنيات الفولكلوريّة والتصريحات الناريّة التي لا تطفئ لهيب الحرائق ولا تبرّد قلب الأرض. ويغيب كليًّا هذا الشأن المصيريّ عن طاولة الحوار (المصنوعة من خشب) وعن العناوين الكبيرة للصحف (المصنوعة من خشب). وإذا كان الرحبانيّان في مسرحيّة "صحّ النوم" شكرا الله على أنّ دولتنا من خشب ولم تغرق في البئر، فإنّنا صرنا نخشى على دولتنا من التخشّب بلا الحركة التي فيها بركة، أو من أن تطالها نيران صديقة وعدوّة، تأكل يابسها بعدما زال أخضرها.
من يخبر كارهي إسرائيل أنّ أكثر ما يقلق هذه الدولة العدوّة هو أن ترى أشجارنا تزحف خضراء باسقة نحو حدودها؟ ومن يشرح لأصدقاء سوريا أنّ أكثر ما يزعج هذه الدولة الشقيقة هو أن ترى تصحّر أرضنا يصل إلى بابها؟ ومن يُعلم أرباب التجارة أحفاد التجّار أنّ السائح الأجنبيّ والمصطاف العربيّ لا يأتيان إلاّ لأنّنا واحة في هذا الشرق العربيّ: واحة طبيعة غنّاء وواحة حريّة مسؤولة، ولن يجذبهما أيّ شيء آخر، هذا إن كنّا نملك شيئًا آخر؟ ومن يلفت المسؤولين إلى أنّ أكثر من ثلاثين ألف شابّ وشابّة تقدّموا بطلباتهم للالتحاق بقوى الأمن الداخليّ في حين لن تقبل الدولة منهم إلاّ أربعة آلاف، وأنّ هذه المرحلة بالذات مناسبة جدًّا لإنشاء فرق لحراسة الغابات والشواطئ والأنهار فتؤمّن العمل للراغبين فيه وتبعد شبح الهجرة عن البيوت وتحمي الطبيعة من عبث العابثين وحقد المتآمرين؟ فالعمل كثير والراغبون في العمل أكثر والناقص هو التنظيم والإدارة والتوجيه المهنيّ وتنمية الحسّ الوطنيّ لرصد حاجات المجتمع (لا السوق).
من عصر العنب والزيتون إلى عصور التحجر والتصحّر، انحدار إلى أسفل درجات التخلّف الحضاريّ، وإذا كانت الحيوانات، بدافع من غريزتها وحبًّا بالبقاء، لا تخرب أوكارها وحجورها وأعشاشها، فأيّ ذكاء وأيّ بُعد نظر هذان اللذان يدفعان الإنسان لتخريب بيته وبيئته؟
لم تصب أرضنا بالتصحّر إلاّ بعدما صارت قلوبنا حجارة صيّرت حجارتنا رمالاً. والقلوب المتحجّرة لا يحرّكها حريق غابة، والرمال المتناثرة لا يبنى عليها وطن. للصحارى التفتّت والتشرذم، فلا تثبت أرضها على حال حين تعبرها الرياح حاملة كثبانها من مكان إلى مكان، ولها القبائلُ المنتظرةُ رحمةَ السماء، والمتناحرةُ بسبب حفرة تجمّعت فيها المياه، والراحلةُ خلف غيمة تعد بالمطر. أمّا اطمئنان الشجرة المتجذّرة في الأرض فليس لها/ بل لها خشية العشب من الاجترار، وهدير الأنهر وتدفّق السواقي ليس لها/ بل لها اقتناع الأرض بما يفيض عن حاجة السماء، وبالتالي ليس لإنسانها نعيم الأمان من غدر الأيّام بل جحيم القلق على المصير. ولو لم تكن الصحراء كذلك لما هجرها ساكنوها يوم استطاعوا ليبنوا أوطانهم الجديدة حيث الجبال والأنهار والأشجار. غير أنّنا نحن اللبنانيّين الذين حوّلوا الجبال جلولاً، فعلنا عكس ذلك، وقبائلَ صرنا بعدما كنّا الوطن، وصيّرنا الترابَ المتماسك حبيبات رمل متفرّقة، والجبالَ الشاهقة مقالع ومرامل، والأرضَ التي كانت منبتًا للرجال والنساء مرتعًا لأشباه الرجال وأشباه النساء، والغاباتِ المعمّرة جمرات فوق أركيلة الجيل الجديد.
البقاع الأجرد والجنوب القاحل يقتربان من الجبل الشوفيّ الأخضر والشمال الخصب، في وقت يعمل أولو الأمر في الوطن على أن يصيّروه خنادق للسلاح ومنصّات للصواريخ وأراضي مزروعة ألغامًا، وأن يجمعوا المال للتسلّح لا للتشجير، وأن يشتروا الطائرات المقاتلة لا تلك التي تطفئ الحرائق، وأن يحرسوا الأرز بالبنادق لا بخراطيم المياه. ولا يبدو أنّ كثيرين في البلد على بيّنة من التغيّرات التي جعلت طبيعة لبنان على ما صارت عليه، وإلاّ لكان من أبسط الأمور أن يتمّ الإعلان عن حال طوارئ بيئيّة تدعو إلى تأسيس كتائب من الشبّان والشابات تعمل على حراسة الغابات والمياه كي لا نهدر الثانية في محاولات يائسة لإنقاذ الأولى، وفي كلّ الحالات الخسارة واقعة. ولكن لا شيء يوحي أنّ ثمّة معالجات جديّة في هذا الموضوع بدليل الاكتفاء ببعض الشعارات الإعلانيّة والأغنيات الفولكلوريّة والتصريحات الناريّة التي لا تطفئ لهيب الحرائق ولا تبرّد قلب الأرض. ويغيب كليًّا هذا الشأن المصيريّ عن طاولة الحوار (المصنوعة من خشب) وعن العناوين الكبيرة للصحف (المصنوعة من خشب). وإذا كان الرحبانيّان في مسرحيّة "صحّ النوم" شكرا الله على أنّ دولتنا من خشب ولم تغرق في البئر، فإنّنا صرنا نخشى على دولتنا من التخشّب بلا الحركة التي فيها بركة، أو من أن تطالها نيران صديقة وعدوّة، تأكل يابسها بعدما زال أخضرها.
من يخبر كارهي إسرائيل أنّ أكثر ما يقلق هذه الدولة العدوّة هو أن ترى أشجارنا تزحف خضراء باسقة نحو حدودها؟ ومن يشرح لأصدقاء سوريا أنّ أكثر ما يزعج هذه الدولة الشقيقة هو أن ترى تصحّر أرضنا يصل إلى بابها؟ ومن يُعلم أرباب التجارة أحفاد التجّار أنّ السائح الأجنبيّ والمصطاف العربيّ لا يأتيان إلاّ لأنّنا واحة في هذا الشرق العربيّ: واحة طبيعة غنّاء وواحة حريّة مسؤولة، ولن يجذبهما أيّ شيء آخر، هذا إن كنّا نملك شيئًا آخر؟ ومن يلفت المسؤولين إلى أنّ أكثر من ثلاثين ألف شابّ وشابّة تقدّموا بطلباتهم للالتحاق بقوى الأمن الداخليّ في حين لن تقبل الدولة منهم إلاّ أربعة آلاف، وأنّ هذه المرحلة بالذات مناسبة جدًّا لإنشاء فرق لحراسة الغابات والشواطئ والأنهار فتؤمّن العمل للراغبين فيه وتبعد شبح الهجرة عن البيوت وتحمي الطبيعة من عبث العابثين وحقد المتآمرين؟ فالعمل كثير والراغبون في العمل أكثر والناقص هو التنظيم والإدارة والتوجيه المهنيّ وتنمية الحسّ الوطنيّ لرصد حاجات المجتمع (لا السوق).
من عصر العنب والزيتون إلى عصور التحجر والتصحّر، انحدار إلى أسفل درجات التخلّف الحضاريّ، وإذا كانت الحيوانات، بدافع من غريزتها وحبًّا بالبقاء، لا تخرب أوكارها وحجورها وأعشاشها، فأيّ ذكاء وأيّ بُعد نظر هذان اللذان يدفعان الإنسان لتخريب بيته وبيئته؟
***
جريدة النهار - الثلثاء 31 آب 2010