الثلاثاء، 3 يوليو 2018

زكريّا تامر القصصيّ في اكتمال/ قراءة للرّموز المختبئة والّتي تضيء (جزء أوّّل)



زكريّا تامر القصصيّ في اكتمال
قراءة للرّموز المختبئة والّتي تضيء
في قصص الرّعب الّتي يكتبها زكريّا تامر(1) لا يوجد مغنّون وموسيقيّون. لا يوجد وسائل إعلام ومسارح. في عالمه القصصيّ لا يرتفع إلّا صوتان: صوت السّلطة وهي تأمر، وصوت الضّحيّة الّتي وقع عليها الأمر، تصرخ وتستغيث. في عالمه، الأغنية أنين ونواح، والموسيقى عويل وصراخ، ووسائل الإعلام تعلن انتصارات وهميّة، والأمكنة، كلّ الأمكنة، تصلح ملعبًا للسّلطة الضّجرة، تلعب فيه أدوارًا لا تتغيّر.
النّاس في هذا العالم يرون ويسكتون، أمّا إذا شذّ أحدهم عن القاعدة وانطلق صوته، المخنوق عادة، فلكي يغنّي: مسكين وحالي عدم (ربيع في الرّماد ـ ص 43).
وأبو فهد الّذي يكرّر هذا المطلع ليس الوحيد المتعب، بل إنّ كلّ الّذين يعيشون في عالم زكريّا تامر القصصيّ مساكين وحالهم عدم، تحيط بهم بيئة غنيّة المشاهد: صحراء، بحار، أنهر، حارات، بيوت، معامل، بساتين، مقابر... وكلّها، ولا استثناء، تصلح مسرحًا لجريمة قتل، أو اغتصاب، أو ملاحقة سلطويّة.
المكان في هذا العالم القصصيّ واحد وإن اختلفت تسمياته، يمكننا أن نحصره في حارة السّعديّ الّتي يكثر ذكرها في المجموعة، أو نتوسّع به لنبسطه على العالم العربيّ كلّه، من المحيط إلى الخليج، وعلى أي مكان لا يعطي الإنسان قيمة فيه. ولكن تامر استثنى مدينتين عربيّتين، رأى فيهما عبرة ودرسًا فذكرهما بالاسم، وهما دمشق وبيروت: دمشق مدينته، وبيروت مدينة كلّ المثقّفين والمضطهدين ليحكي قصّة بنائهما وتاريخهما وواقعهما، فدمشق "توافد إليها أناس كثيرون ونصّبوه (من بنوها) ملكًا عليهم، ولمّا مات توارث الملك أبناؤه وأحفاده، فكان بعضهم ربيعًا، وبعضهم نارًا" (نداء نوح ـ دمشق) "أمّا بيروت فلم تنج من الهدم والسّبيّ والقتل على أيدي رجال يقال أنّهم تفوّقوا على هولاكو" (نداء نوح ـ بيروت).
الأمكنة لا تبقى على طهرها وبراءتها مع هذا القاصّ، أساسًا لا شيء يبقى هكذا ما دام الإنسان ملاحقًا ومظلومًا. والأمكنة عنده شريكة في الجريمة، أو شاهدة عليها، أو متلقّية لنتائجها. فالنّهر ليس مجرّد منظر طبيعيّ مؤنس، بل متّهم ملاحق يهدّده الشّرطيّ ويمنعه من التّدخّل في الشؤون السّياسيّة: "اتّكأ الشّرطيّ بمرفقيه على سور النّهر وصاح بصوت خشن صارم: أين النّهر؟" (النّمور، ص 20). وإلى جانب النّهر القبض على الأبرياء، فحين "إتّكأ عمر السّعدي بمرفقيه على سور النّهر وتأمّل منتشياً المياه المنسابة تحت ضياء الشّمس"، "أقبلت بغتة سيّارة الشّرطة" وكان القبض عليه دون ذنب ورمته في السّجن (ربيع في الرماد، ص 71).
وفي قصّة "النّهر ميت" نقرأ: "إستندت بمرفقي الى السّور الحجريّ وثبّت نظراتي على مياه النّهر المتدفّقة تحت ضياء نهار ناعم وقلت لنفسي، ليتني نهر... ليتني بلا أب... بلا مدينة... بلا إسم" (صهيل الجواد الأبيض).
البستان أيضاً لم يوفّره قلم زكريّا تامر، ولم يبقه على خضرته وزهوره بل حوّله إلى مكان للجريمة "ترك الأخ جسم أخته في البستان وأخذ رأسها معه وعلّقه على حائط الغرفة الّتي ينام فيها" (النّمور، ص 70). وفي قصّة "البستان" نرافق الحبيبين في رحلة حبّ وأحلام وأمنيات، وما إن يدخلا حتى تحاصرهما مجموعة من الشّبّان بغتصب أفرادها الفتاة بعدما ضربوا حبيبها" (دمشق الحرائق).
يبدو واضحًا إنّ تامر لا يجد رموز الحياة حيث يجدها باقي النّاس. عنده تمتلئ المدن والحارات بالموت حين إنّ القبور تمتلئ صخبًا وحياة. "سيّارة الشّرطة تشبه تابوتًا عتيق الخشب" (الرّعد، ص 20) ومقهى المدينة "يشبه تابوتًا مهترئ الخشب" (النّمور، ص 47)، ومخفر الشّرطة يبدو كقبر ضخم (الرّعد، ص 127). والرّجال " رؤوسهم منكّسة يتبعون بتثاقل تابوتًا كان في ما مضى شجرة تحبّها العصافير" (صهيل الجواد الأبيض، ص 133)، والياسمين "ينبت خفية في المقابر مرتديًا أكثر الثّياب حلكة" (دمشق الحرائق، ص 53).
ولعلّ مجموعة "الرّعد" تقدّم دليلًا ذا مغزى حول هذا الأمر، ففي الصّفحة الأولى من كلّ قصّة، بل في الأسطر الأولى، يحدّد الكاتب المكان/ المقبرة: "ثمّ دفنه بعد ساعات في مقبرة محاطة بالمنازل" (ص 11)، "أقف بين الأضرحة البيض" (ص15) ، "دخل شرطيّ بدين إلى القبرة" (ص 29)، "لقد ولد عبد الله بن سليمان حافيًا وترترع حافيًا ويسير حثيثًا إلى القبر بقدمين حافيتين" (49).
لا بدّ أن تلفتنا في هذه الإشارات / النّموذج العلاقة بين السّلطة والمقبرة  وكأنّها علاقة السّبب بالنّتيجة. ولا يمكننا إلّا أن نتوقّف عند هذه المرارة في اختيار اسم عبد الله لهذا البطل ـ العبد الّذي ولد حافيًا وسيموت حافيًا، وبين الولادة والموت قدمان حافيتان على طرقات شائكة. هل هذا ما أراد الكاتب قوله حين جعل عنوان القصّة "عباد الله"، الّذين يستسلمون لعبوديتهم في انتظار خلاص موعود؟
وقد تكون قصّة "السّهرة" بين المقابر، يرافقها شرب العرق والغناء من أكثر القصص دلالة على نظرة الكاتب إلى جدليّة العلاقة بين الحياة والموت (النّمور في اليوم العاشر، ص 93). ألم نقل إنّ المقابر قد تبدو أكثر حياة؟ وإلّا فما معنى أن يعود من الموت رجال وقادة يريدون مسار الأمور، حين إن الأحياء يجرّ بعضهم البعض الآخر إلى الموت، بعناد عجيب، بغباء عجيب؟
يقودنا الحديث السّابق إلى شخصيّات هذه المجموعة، فنجدها محدودة الوظيفة، عاجزة ومستسلمة، نهاياتها معروفة ومنتظرة وكأنّها دمى متحرّكة في أيد غير منظورة، وإذا ظهر صاحب الأمر بدا ضجرًا، طفلًا لاهيًا وسخيفًا، يبحث عن دمية (الملك ـ الوزير...) ألا يجعل ذلك الحياة أكثر قسوة والموت أكثر سخفًا؟!
المرأة ضحيّة الرّجل: أخ يقتل أخته، رجال الحارة يلاحقون فتاة خلعت الملاءة السّوداء (دمشق الحرائق، ص111)، فتاة تغتصب في الشّارع (نداء نوح، ص 353).
والرّجل ليس أفضل حالًا، فهو ضحيّة كبته الجنسيّ، يفعل المستحيل ليرى وجه المرأة الّتي فرض هو نفسه الحجاب عليها، يلحق بها في الشّارع ليلمس يدها، وعندما ينفرد بها يعتدي عليها في وليمة بمدعوّين، وكأنّ المرأة لن تعرف الأمان "بعيدًا عن البيت"(نداء نوح، ص 243).
والرّجل ضحيّة الشّرطيّ، والشّرطيّ حارس النّظام، دونه هو إنسان ضعيف، وبه هو إنسان مطمئنّ لأنّه غير مضطر إلى التّفكير والشّعور، فالنّظام ـ ولا أقصد القوانين الموضوعة لخدمة المجتمع ـ هو الّذي يتحمّل مسؤوليّة التّعذيب والقتل يرتكبهما الشّرطيّ / الأداة التّنفيذية.
ذكرنا سابقًا  إنّ الكاتب يستحضر بعض شخصيّاته من عالم الموت، فيأتي بها مرغمة لتخضع للاستجواب والمحاكمة كعمر الخيّام (الرّعد ـ ص 31) أو لتشارك في المقاومة ولتعرف من ثمّ الهزيمة والأسى كيوسف العظمة (دمشق الحرائق، ص 143) ومن الممكن أن يعود أحدهم من الموت ليعمل جاسوسًا فيقبع في حفرته ليصغي إلى ما يقوله النّاس (النّمور، ص 121). واستعان الكاتب كذلك بهولاكو وتيمورلنك وجنكيزخان رموزًا للإجرام والقتل، أو بكامل الكيلاني وأمل دنقل وعمر الخيّام وعنترة رموزًا أدبيّة تشهد على فشل الأدب في مواجهة السّلطة، أو يستعين بعبّاس بن فرناس وسواه من العلماء ليقول إنّ العلم مضطهد والعالِم ملاحق.
لا يبقى زكريّا تامر رمزًا على صورته التّقليديّة، المقدّسة أدبيًّا واجتماعيًّا. في عرفه، ما دام الإنسان غير محترم وغير محميّ فلا شيء جدير إذن بالهالة الّتي وضعت حوله. ولهذا نراه يمعن تحطيمًا للرّموز المتوارثة، يخرج عن تقاليد الفكرة والعبارة ويمسح الصّورة المتعارف عليها ويحطّم الهياكل الّتي لم تحافظ على كرامة الإنسان. وبعد الأمكنة الشّاهدة على العجز، وبعد المقبرة المنتهكة يتعرّض الكاتب للعدد سبعة. ومن المعروف إنّ هذا العدد رمز للكمال والتّمام بعدما قسّم الفراعنة الأسبوع إلى سبعة أيّام إزاء المراحل الّتي يمرّ بها القمر وصولًا إلى الاكتمال. ولهذا هناك يوم سابع للاستراحة من عمليّة الخلق، وسماء سابعة، وبحار سبعة. ودون التّوسّع في تفاسير هذا العدد مع الفيثاغوريّين وإخوان الصّفا، ننتقل إلى هذه المجموعة حيث يرتبط هذا العدد بالشّرّ والأذى. فإلى الغرفة الرّقم سبعة يعود "أكرم"، النّزيل الّذي يشاهد الجرائم بلذّة غريبة وهو يقول إنّه يحلم (النّمور، ص 66). وفي نهر من الأنهار السّبعة، قذف  رجال الشّرطة الرّجل بعدما أوثقوه وربطوا قدميه بحجرين ثقيلين (الرّعد، ص 20).
وصوت الحكاية يكذب على أبي فهد بعدما وعده بالثّروة وقال له "سأعطيك سبع جرار ملأى بالذّهب". ويموت أبو فهد قتلًا لأنّه صدّق الحكاية (ربيع في الرّماد، ص 45). والأبناء السّبعة يدفنون والدهم حيًّا لأنّه لم يعلّمهم إلّا الخنوع والخضوع (النّمور، ص 88). وفي قصّة "أقبل اليوم السّابع"  يحطّ غراب في هذا اليوم، ويسود الضّجر، وتقتل الفتاة الجميلة، ويحزّ الرّجل حنجرته بالمدية بحركة حاقدة، ويستريح.
ومقابل الأقزام السّبعة الطّيّبي القلب وثليجة البيضاء الطّاهرة النّقيّة، نجد في مجموعة "صهيل الجواد الأبيض" الفتاة الّتي ترغب في رجال سبعة يمزّقون ثوبها ويلمسون لحمها الجائع دون أن تشعر هي بأي خجل "إنّما غمرها فيض من العذوبة الممتزجة بحنين إلى قسوة حارّة" (ص 132).
وفي "النّمور في اليوم العاشر" (ص 86)، يصنع الرّجل في نومه سبع ذبابات تنذره بالموت. وفي "نداء نوح" (ص 343) يعلّم جحا تلميذه الوصايا العشر وفيها دروس عن الخنوع والغباوة والكذب، ففي ذلك الخلاص من الحكّام والسّلاطين. وفي الصّفحة 352، يشاهد جحا في اليوم السّابع مدينته على حقيقتها، ملأى بالظّلم والاضطهاد والجهل. وفي الصّفحة 376، أيضًا من "نداء نوح" تتكرّر حكاية جحا وجرار الذّهب السّبع، وفي الصّفحة 312 تحتفل الرّعيّة بنجاة ملكها الظّالم سبعة أيّام.
كيف تبقى الرّموز مقدّسة، في هذا العالم القصصيّ، والأطفال يغتصبون معلّمتهم، ثمّ تمعن أسنانهم قرضًا للحمها، وعمر كلّ واحد منهم لا يتجاوز سبع سنوات؟ (دمشق الحرائق، ص 65). كيف يكون اكتمال وتمام  والأطفال يتركون إبن جيرانهم يغرق في النّهر؟ (النّمور، ص 27) ويقدّمون التّقارير في حقّ أهلهم أو يحلمون بذبحهم (نداء نوح، ص 96).
ميّ م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة "النّهار" الخميس 3 تشرين الثّاني 1994
(1)   صدرت أعماله القصصيّة الكاملة عن دار رياض الرّيّس.
*يتبع جزء ثان.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.