الأربعاء، 4 يوليو 2018

"يا سلام" لنجوى بركات/ شخوص ما بعد الحرب في القتل والساديّة (النهار – 21 نيسان 1999)




"يا سلام" لنجوى بركات
شخوص ما بعد الحرب في القتل والساديّة
النهار – 21 نيسان 1999
(أعيد نشرها في أيّار، في صفحة نهار العرب والعالم من ملحق لو موند ديبلوماتيك)
"نوعان من الكائنات الحيّة فقط يصنعان حروبًا ضدّ جنسهما: الجرذ والإنسان. والاثنان لا ينفعان أيًّا من الكائنات الحيّة الأخرى ويدمّران كلّ أشكال الحياة..."
هذان النوعان هما بطلا رواية نجوى بركات الصادرة عن "دار الآداب"، في طبعتها الأولى "يا سلام". وتروح الرواية في محاولة بحث عن هذا السلام الذي أعقب الحرب اللبنانيّة، وعمّا فعله بأبطال الحرب ورموزها وضحاياها، وعن بيروت، المدينة التي تتزاحم السحب الرماديّة والسوداء في سمائها، وتتكاثر الجرذان الرماديّة والسوداء في شوارعها ومنازلها. وإن كان يحقّ لها أن تعود إلى الحياة – وتكون عاصمة الثقافة العربيّة لسنة 1999 – بعدما فشلت في أن تكون صانعة إنسانها ومجتمعها.
ثمّة أمر لافت وساخر في هذه الرواية، يتجلّى في اختيار أسماء الشخصيّات الرئيسيّة – وكلّها كذلك – "سلام"، العانس التي تبحث عن زوج تقتل أخاها المجنون كي لا يقف عائقًا أمام علاقتها بالرجل الوحيد الذي قَبِلَ أن يشبعها جنسًا بعدما أذاقها أنواع التعذيب والقسوة. "سلام" هذه، التي تفعل عكس ما يوحيه اسمها، وتعلن حربها الخاصّةـ بعدما انتهت حروب الآخرين على أرضنا، هل هي رمز السلام المشوَّه العاجز عن فرض نفسه أمام "أبطال" الحرب؟ وهل في عجزها عن إيجاد الزوج وإنجاب الولد والاحتفاظ بالشقيق، رمز آخر لفشل السلام الذي يبغي الاحتفاظ برموز الحرب، وإيحاء بأنّ أيّ زواج بين "سلام" وأيّ من المشاركين في عمليّات قتل الناس وتدمير البلاد لن يوصل سوى إلى الموت والجنون؟
"أبطال"
وسليم، أخوها، لا يحمل من السلامة إلّا اسمه. فقد عقله عندما اكتشف حقيقة الأبطال المزّيفين، وشهد على إجرامهم وأمراضهم النفسيّة، وإذ عجز عن الإعلان عمّ صار يعرفه، فضّل الانسحاب إلى عالمه الداخليّ الطفوليّ، وتخلّى عن عقله السليم، فتخلّت عنه أخته "سلام" ووضعته في المصحّ. أمّا "لقمان" بطل الحرب فلا شيء يربطه بلقمان الحكيم، الشخصيّة الأسطوريّة التي تُنسب إليها الحكم والأمثال، والذي لقّب بالمعمّر لطول عمره، في حين أن لقمان الرواية الذي نجا من الحرب مات خنقًا بالغاز وهو في زهرة شبابه وأحلامه بالسفر. ولم تنفع حكمة لقمان في ردعه عن الطمع الذي أودى به.
ونجيب، الرجل الذي تقتل سلام أخاها من أجله، بعيد عن كلّ نجابة وذكاء وحسن تخلّص، فقد هرب من تهمة التجارة بالمخدّرات ليعلق في فخّ المسؤولة عن المصحّ ورغباتها الجنسيّة، حيث توارى هربًا. وحين رغب في التخلّص من هذا الشرك، وجد في الأمانة التي تركها له مريض "عالِم"، معادلات كيميائيّة تجعله قادرًا على مكافحة الجرذان، فأوصلته الجرذان إلى الطاعون القاتل.
أمّا الياس، الملقّب بالأبرص، فقد سميّ تيمّنًا بالقديس الياس، "قدّيس أشبه بمحارب شرس منه بقدّيس، يشهر السيف باليد ويمسك بفروة رأس رجل مرتم على قدميه باليد الأخرى. قدّيس مقفل الملامح، ينتصب غاضبًا، كإعصار وسط حقل مزروع بجثث القتلى والحرائق والدمار" (ص 11 – 12).
والياس الأبرص اكتشفت أمّه حقيقة بطولاته يوم قلقت عليه، فلحقت به ليطمئنّ قلبها على وحيدها، فرأته في مكان عمله، في مركز بطولاته: "رأيتك... كنت تضحك! لماذا كنت تضحك يا أمّي، والرجل بين يديك عار يبكي ويتوسّل ويتوجّع ويصرخ ويستغيث بك أن ترحم أطفاله، إن لم يكن في قلبك رحمة عليه؟ لماذا كنت تضحك يا أبرص، وأنت تقتلع أظافره لالكمّاشة وتكسر أسنانه بكرة الحديد ثمّ تدلق عليه الماء وتكويه بقضيب ملتهب بالنار" (ص 188).
فهل كان الياس الأبرص – بحسب نجوى بركات – يستعيد مشهد شفيعه ويدافع مثله عن الدين، كما علّموه أن يدافع؟
المدينة
تبدأ رواية "يا سلام" بمشهد السحب التي تنظر إلى المدينة التي ما عادت تشبه نفسها ولا تشبه مدنًا سواها، والتي فقد أهلها عادة البكاء. وتروح الرواية ترسم شخصيّات أبطالها، وكلّ ما في هذه الشخصيّات يدعو إلى القرف والنفور والتقزّز، ومع ذلك فإنّ أحدًا من سكّان المدينة لم ينتبه إلى ما يجري، ورغم المرض والفقر والجنون، فإنّ دمعة واحدة لم تُذرف. أمّا القارئ، فمن المشهد الأوّل، يتوقّع الطوفان الذي سيغسل المدينة من عارها وشرورها وخطاياها، وينتظر من السحب التي تراقب من بعيد، أن تفرغ حمولتها من الدموع، في حين نضبت مآقي سكّان تلك المدينة الملوّثة. وهذا ما يحصل بعد بلوغ كلّ شخصيّة المصير الذي رسمته لنفسها. وتنتهي الرواية باستعداد السحب المتراكمة الحائرة فوق المدينة للهرب، بعدما رأت الأرض تميد تحتها منذرة بزلزال عظيم، فتبكي عليها.
إنّها رواية العلاقات المحرّمة التي ستفضي بالمدينة إلى مصير سدوم وعمورة، الأخت تسكت أخاها المجنون وتمنعه عن الصراخ بإعطائه ثديها، وعندما تجد رجلها تقتل أخاها وتطعم جرذان المدينة جثّته. والإبن يقتل أمّه حين يتبرّأ منها أمام رفاق صفّه، والأمّ تقتل هويّتها وتوافق على كذبته وتقول إنّها المربّية. ثمّ يقتلها ابنها مرّة ثانية يوم تكتشف حقيقة عمله وبطولاته وكيف يتمتّع بتعذيب الأسرى، وتقرّر الأمّ قتل ابنها لتمحو العار الذي شهدت فظائعه فتخنقه بالغاز وهو نائم. لكنّها لا تستريح بل تجنّ ويبقى طيف ابنها يتردّد عليها حتّى يفقدها عقلها، وعندما يلتبس عليها الأمر وتظنّ أنّ لقمان هو ابنها، تستعيد عمليّة قتله وتقتل نفسها معه.
ولقمان الذي كان وجد جرذًا في الفرن عند سلام، وتلذّذ بتعذيبه وخنقه بالغاز، عاد في اللحظة غير الملائمة ليزور أمّ الياس، بل ليسرق مالها قبل أن يترك البلاد نهائيًّا، فيعلق في شرك جنون ام الياس ويُقتل بالغاز.
ونجيب المدّعي المعرفة بأنواع الجرذان ووسائل مكافحتها والقضاء عليها، يموت بالطاعون، المرض الذي تنتقم به الجرذان من الإنسان حين لا يعود إنسانًا، وتجنّ سلام التي ضحّت بأخيها من أجل سياط نجيب وسكائره على جسدها المستمتع بالتعذيب.
السلام المجنون، ذاك ما بقي بعد انتهاء الحرب، والجثث المهترئة والقتلة الذين يُقتلون بما قتلوا به، والعنف الذي يولّد عنفًا. والرواية التي تدور حوادثها بين مصحّ المجانين ومركز الهاتف الذي تدّعي العاصمة أنّها ترتبط بواسطته بالعالم الخارجيّ، وحفريّات الآثار التي تردم مكتشفاتها جرّافات الحكومة، وبيوت الدعارة... تنتهي في انتظار الطوفان لعلّ فيه الخلاص.


ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.