زكريّا تامر القصصيّ وأعماله الكاملة
الهروب من الواقع وغسل الفم
زكريّا تامر الّذي صدرت له أعماله الكاملة عن دار رياض
الرّيّس، هنا في قراءة له، جزءًا ثانيًا.
في عالم الخوف هذا، حيث الشّرطة في كلّ مكان، في كلّ
صفحة، لا بدّ من أن يسود اللّون الأسود ليصبغ معه كلّ شيء.
في "ربيع الرّماد" تتساقط العتمة ثلجًا أسود
(ص 93) وتبدو المدينة الميتة سوداء (ص 87)، واللّيل وردة سوداء (ص 11) ويجيء
اللّيل كفنًا أسود (ص47) وتصير المرأة سوداء (ص 97) والرّجل أسود (ص 31).
وفي "الرّعد" نجد: "كان الحزن آنذاك
حمامة ترتدي ثياب الحداد" و "زهرة سوداء (ص 11).
وفي "صهيل الجواد الأبيض": وتلاشى الثّلج
الأسود" (ص 40) و"ربيع شعرها الأسود" (ص 13).
مقابل هذا السّواد الدّائم، هذا العالم اللّيليّ حيث
تتداخل الكوابيس والواقع وحيث الحبّ والجريمة، الصّلاة والفجور، هناك الشّمس، عنصر
أساسي في الدّيكور، لكنّها شمس لا توحي بالثّقة والاطمئنان، ولا يركن إليها، وإذا
أخذنا الشّواهد من مجموعة "صهيل الجواد الأبيض" إنّما لكثافتها
وتتابعها، دون أن يعني هذا إنّ المجموعات الأخرى لا تحتمل الرّؤية نفسها. الشّمس
هنا نضرة (ص 11) أو "قرص مستدير أصفر" (ص21)، أو "كجسد أنثى
فاتنة" (ص 35) أو "ناعمة الضوء" (ص131)، ثمّ تبدو "باردة
حزينة هزيلة" (ص 57) أو قاسية (ص 105). أو هي الشّمس "الميتة" (ص
93) و"مجنونة اللّهب" (ص106)، والمتسمّرة (ص133) و"العتيقة"
(ص 137).
أمر آخر يفرض نفسه على قارئ هذه المجموعة، هو العدد
الكثير من أسماء الحيوانات الّتي ترمز إلى الشّرّ والبشاعة. وفي المرّات القليلة
حين اختار الكاتب حيوانًا أليفًا ولطيفًا، كان هذا الحيوان ـ الرّمز وسيلة للهرب
من واقع مرير كما في قصّة الحصان الأبيض. أو صورة مشوّهة ـ ضمن خطّة واعية ترفض
المأثور والسّائد ـ فيتحوّل الخروف إلى جزّار، ويموت أبو فهد ويختفي جحا (ربيع في
الرّماد ـ نداء نوح). ومن الممكن أن يكون هذا الحيوان مادّة تشبيهيّة منكسرة: "عيناها
حمامتان وديعتان تحطّمت أجنحتهما" أو "تشايكوفسكي ضفدع حزين ولوركا بلبل
أسود وكافكا صرصار من حجر" (صهيل الجواد الأبيض). أمّا الحيوانات الأخرى فهي
من نوع: الذّئب والجرذ والغراب والوطواط الهرم الأعمى والدّودة الضّجرة وكلب
الأسواق الأجرب والعناكب وخفّاش المدينة والصّراصير والقرد المحنّط والذّباب
والجراد والحمار.
تثير قضيّة الصّدمة أو المفاجأة جدالًا بين متذوّقي
القصّة، وهنا فريق يعتبرها عنصرًا سلبيًّا، ودليل ركاكة وضعف، وفريق آخر يرى فيها
مادّة التّشويق والإثارة. لكنّنا لن نجد مفاجأة في قصص زكريّا تامر لأنّ ظروفها متشابهة، حتّى أسماء الشّخصيّات لا
تنوّع فيها يلحظ (رندا ـ عائشة ـ يوسف...) ولكن أن تتكرّر القصص وتتشابه إلى حدّ الرّتابة
أمر آخر يستحقّ التّوقّف عنده: فقصّة "الخروف والجرار السّبع" تروى
مرّتين (نداء نوح ص 376 وربيع في الرّماد ص 45) والحبّ المختبئ تحت قصف الطّائرات
وهول الحرب يظهر في قصّتين متشابهتين ("النابالم النابالم" من مجموعة
رعد، و"الحبّ" من مجموعة "دمشق الحرائق"). والولد الّذي يهمله
أهله فيهرب من المنزل، يظهر في مجموعة "ربيع في الدّماء"(ص 53)
و"دمشق الحرائق" (ص 71 وص 185) و"النّمور في اليوم العاشر" (ص
27)، والوصيّة نفسها تتكرّر في مجموعة "النّمور..." (ص 24) و"نداء
نوح" (ص 343).
نشير أيضًا إلى إنّ قصص هذه المجموعة مترابطة ومتلاحقة
تتمّات مقصودة واعية، أو كأنّها مشاهد تنتقل العين من واحد منها إلى آخر دون قطع
أو توقّف، كأنّ الوقت لا يسمح باستراحة ولو قصيرة، حتّى إنّنا لنفاجأ في نهاية بعض
القصص بمفاجآت ـ هل هي كذلك؟ ـ طريفة ولافتة. ولنأخذ الأمثلة من مجموعة "دمشق
الحرائق" تنتهي قصّة "البستان" بعبارة "اللّيل الأسود
آت" (ص 17) وتتبعها مباشرة قصّة "اللّيل" (ص 18). وتنتهي قصّة
"أقبل اليوم السّابع" بعبارة "وكأنّ الغراب لا يزال جاثمًا على غصن
شجرة النّارنج"، لتأتي بعدها مباشرة قصّة "الشّجرة الخضراء",
وفي نهاية قصّة "موت الياسمين" هذه العبارة:
"غير إنّ الياسمين نبت بعدئذ في الرّماد شمسًا بيضاء" (ص 58)، لكن
المفاجأة تنتظرنا (في الصّفحة 59) مع عنوان "موت الياسمين" وتنتهي قصّة
الخراف بعبارة "ترتدي ثياب الحداد" (ص 115) لتليها قصّة "الرّاية
السّوداء". وفي الصّفحة 139 تنتهي قصّة "موت الشّعر الأسود"
بعبارة: "تطرق أبوابها مستنجدة فلا يفتح باب من الأبواب وتتلطّخ السّكّين
بالدّم"، وتبدأ القصّة الّتي تلي مباشرة وعنوانها "الاستغاثة"
بعبارة: "أقبلت الاستغاثة ليلًا إلى دمشق النّائمة طفلة مقطوعة الرّأس
واليدين".
من يقرأ عادة ليستمتع بالقراءة لن يجد في قصص زكريّا
تامر متعته، ومن يقرأ للتّسلية ستفاجئه رتابة هذا العالم إلى حدّ الجمود والموت،
هذا العالم الّذي ينكشف بوقاحة تحت ستار الرّمزيّة والمثل، ومن يقرأ لينسى ستلاحقه
أشباح الموتى والمضطهدين.
من يقرأ هذه المجموعة إذن؟ كلّ راغب في ساحة قتال يواجه
كلّ ما لا يجرؤ على تسميته أو التّفكير فيه.
عالم ملعون ذاك الّذي سنجده في هذه الصّفحات الممتدّة
على أكثر من أربعة عقود حيث الإنسان مهمل ومضطهد، وكلّ ما حوله أكثر أهميّة منه،
هو عالم يستحقّ الخراب لعلّ الحياة تنبثق من الموت أو يمنع زكريّا تامر عن نفسه هذا
الرّجاء، قد يكون في هذه الفقرة جواب ما.
"فليمت أهل البلدة جميعًا، فلتكن زوجاتهم قطعان
ماعز ولتخرج الجرذان من مخابئها تحت الأرض ولتأكل الأطفال في مهودهم. فلتكن البلدة
بلا أطفال حتّى الأبد... سيّدها الحيوان، وها هو ذا اللّيل يهبط فوق الأرض كسقف من الوطاويط وأنا بلا امرأة. لا
بيت لي. وطفلي الّذي انتظرته بكثير من الحنين والفرح تركته وانطلقت كريح غاضبة.
سيأتي الغد. التّراب جلد الأرض الخشن. سيضمحلّ التّراب. الأرض فولاذ بارد.
المحاريث يائسة محطّمة. لا سنابل. لا شجر. الأنهار سود. جراح بلا ماء. المنازل
مقابر. الملوك يمشون بكبرياء بلا رؤوس... لقد شنقوا القمر. ونهر من الأغنيات ينأى
عن المدن كسحابة لها آلاف الأجنحة. الجراد يمحو اخضرار الأرض. الأمّهات يخنقن
أطفالهنّ ويرمين جثثهم إلى كلاب تنتظر بأفواه مفتوحة تتدلّى منها ألسنة طويلة
مرتجفة. الشّبّان يذبحون آباءهم ويسكرون وهم قاعدون على أسمنت الأرصفة والذّباب
يتسلّل إلى أفواه الشّبّان ثمّ يتسرّب إلى داخل الرّؤوس، وهناك سيطنّ حتّى يقبل
الموت. حلّ موعد العشاء. العائلة السّعيدة أكلت طفلًا مسلوقًاـ كان طفلًا من
أطفالهاـ ثمّ غسلت أفواهها وأصغت إلى أغنية : آه يا ليلى. سيأتي الغد" (دمشق
الحرائق ، ص 289).
هل حلّت اللّعنة؟ ألا
خلاص؟
ميّ
م. الرّيحاني
الاسم المستعار لماري القصّيفي
الاسم المستعار لماري القصّيفي
جريدة
"النّهار" السّبت 5 تشرين الثّاني 1994
*زكريّا تامر ـ الأعمال القصصيّة الكاملة ـ عن دار رياض
الرّيّس للكتب والنّشر: صهيل الجواد الأبيض، ربيع في الرّماد، الرّعد، دمشق
الحرائق، النّمور في اليوم العاشر، نداء نوح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق