أكاد
أجزم بأنّ الأديب فؤاد كنعان كان يقصد عمّي سعد بقوله: يا صبيّ يا أزعر يا لذيذ.
هكذا كان عمّي الذي رحل ليلة عيد الغطاس، وهكذا بقي حتّى وهو في غيبوبة المرض. إذ
كان حين يصحو يوحي، لمن حول سريره، بأنّه لا يزال ذلك الشاب الجامح يخوض مغامرة
جديدة، في إحدى الرحلات التي كان يقوم بها بحكم عمله قبل الحرب سائقًا في شركات
سياحيّة.
حين
وصل اليوم جثمان عمّي سعد من المستشفى إلى الكنيسة، وبعدما استقبلته دموع زوجته وأولاده
وشقيقته وأشقائه وأحفاده، وبعدما ودّعته العائلة وتركته بحسب التقاليد الجديدة
لينتقل الجميع إلى الصالون، حيث توافد المعزّون، تقصّدتُ أن أبقى معه في كنيسةٍ تبثّ موسيقى دينيّة هادئة أجزم بأنّه لم يصغِ إليها يومًا، ولا أعتقد أنّه في تلك
الساعات الباردة التي تفصله عن صلاة الجنازة شعر بأنّه كان سيحبّها لو استمع إليها.
كنّا
شبه وحيدين، كنّا شبه صامتين، كنّا شبه مستغربين المكان الذي نوجد فيه. فلا هو من
الذين يحتملون البقاء في مكان واحد لأكثر من بضع دقائق، ولا أنا من الذين يبقون مع
الميت كي يرفعوا الصلاة لراحة نفسه. ولكن كلانا يحبّ "الحكي"، صحيح أنّه
لا يعرف كيف يتكلّم بصوت منخفض، وصحيح أنّني لا أحبّ الصوت المرتفع، لكن حوارنا في
ذلك الوقت، لم يكن فيه صوت، وبالتالي، لم يكن ثمّة داعٍ كي أقول له: يا عمّي لشو
هالصريخ؟؟؟ ولا هو كان قادرًا على معاندتي كما كان يفعل كلّ مرّة، فيرفع وتيرة النبرة أكثر
فأكثر.
كان
عمّي سعد صوتًا صارخًا! في البريّة وفي الصحراء وفي المدينة وفي البيت وعلى
الطريق! يرسل صوته أمامه ليعدّ له الطريق، وليطرق عنه الباب، منبّهًا الجميع
إلى أنّ عاصفةً من الحكي والأخبار والنكات والمشاكسات تصل بعد قليل لتقضّ سكينة المكان.
ومع ذلك فها هو الآن صامت هادئ يكلّمني بنبرة لطيفة طالبًا منّي أن ألتحق بالآخرين
لآكل شيئًا، لأشرب فنجان قهوة، كوب ماء... غير أنّي كنت راغبة في تمضية الساعات
الأخيرة من وجود جسده خارج عتمة القبر، للاستمتاع بجدال جديد معه، حول كلّ شيء،
وحول لا شيء.
كنت
على عادتي في الامتناع عن زيارة المرضى في المستشفيات، لا أريد أن أراه ممدّدًا
معانيًا مقيّدًا بخراطيم تمدّه بوهم حياة. كنت أعرف أنّني سأرى موته الأكيد لو
زرته في المستشفى، في حين أنّني الآن، وهو مسجّى في تابوته البنيّ، أراه حيًّا
عنيدًا صاخبًا يريد أن يفرض قوانينه وشروطه:
- لا أريد أن يكذب
الكاهن على الناس فيجعلني قدّيسًا!
- لا أريد أن يجلس
الرسميّون في الصفوف الأماميّة مبعدين إخوتي وولدي عنّي!
- أريد أن أغلب
عنتر للمرّة الأخيرة!
- أريد جورجيت، أين
هي زوجتي؟
- أريد إبني ميشال،
لماذا لم يأتِ من السفر؟
يا
عمّي! أنت ميّت لماذا لا تقتنع؟ أقول له. سيقول الكاهن ما ينتظر الناس أن يقال في
مناسبة كهذه، سيحتلّ ممثّلو القيادات والقادة الصفوف الأماميّة ولن يأبهوا لإخوتك
العجزة الذين حضنوك حيًّا وميتًا، وعنتر غلبك هذه المرّة ولن تستطيع بعصاك أن
تخضعه ليركع أمامك، وزوجتك تتقبّل التعازي في الصالون، وميشال لم يستطع الحضور... لكنّ "ميلاد" هنا يقوم بالواجب كما فعل دائمًا. فكفّ عن إصدار الأوامر وارتح.
حين
لم يجب عمّي، ظننت أنّه بالفعل مات. أو أنّ هذا الرجل الثمانيني العنيد مات مرّة ثانية. لكنّه عاد ليفاجئني بحزم وهو يقول: ما بدّي كون قدّيس، أنا زلمي منيح بس
مش قدّيس. عشت حياتي وسافرت ورحت وجيت بس ما إذيت حدا... بتحدّى حدا يجي ويقول إني
إذيتو. يمكن ما إذيت غير حالي، يمكن ما كنت منتبه ع كتير إشيا، بس كلّو كان عن غير
قصد.
- لكن يا عمّي في هذا
أيضًا نوع من القداسة! على الأقلّ أنت لا تكذب على نفسك أو على أحد، ولا تحقد على أحد، ولست خبيثًا!
***
كان عمّي سعد مسكونًا بشياطين المتعة على أنواعها، متعة السفر، متعة الترحال، متعة البحث عن
الجمال، متعة تبذير المال، متعة التدخين، متعة الشيطنة المختبئة في قلب طفل، ومتعة
المراهقة المتشبّثة بعقل رجل صار زوجًا ووالدًا وجدًّا ولم ينتبه... لم ينتبه إلّا
حين فاجأته أمراض الشيخوخة فاكتشف أنّ العمر قد مضى وأنّ جسده ما عاد قادرًا على
مواكبة توثّب نفسه التائقة دومًا إلى السفر، إلى الخروج من بين جدران البيت، إلى
الخروج من شرنقة الذات.
من
أجل اقتناء سيّارة، زمن كان الناس في بلدتنا يتنقّلون على الدواب، ضحّى عمّي سعد
بالكثير! فحلم الانطلاق في مغامرة الطريق كان بالنسبة إليه أقوى من أيّ قيد ماديّ
أو واجب عائليّ، ونداء الليل كان يمنع عنه هناءة النوم، والتوق إلى قيادة سيّارة
نحو مكان، أيّ مكان، قادر على إخراجه من سرير الأمان ليرمي بنفسه في مجاهل
المغامرة.
عاش
عمّي سعد في غربة المكان ولو كان بين أهله وأحبابه، وفي غربة الزمان كأنّه ولد في
الزمن غير المناسب، لكأنّه البوهيميّ بين رهبان دير، أو الشاعر المجنون بين مجموعة
علماء عاقلين. واليوم، حين ودّعته قبل أن تبدأ مراسيم الجنازة بالشكل الذي توقّعه
عمّي، اكتشفت أنّ هذا الصبيّ الأزعر اللذيذ يملك قدرة غريبة على رسم ابتسامات
مختلفة الأحجام والأشكال على وجوه المعزّين، لأنّ عارفيه عن كثب يدركون وبكلّ
بساطة أنّ فيه، ككلّ واحد منّا، صفات سيّئة كثيرة، لكنّه على الأقلّ، وبالتأكيد، أهضم
زلمة عرفته العائلة.
هناك تعليق واحد:
قدرتُكِ على الإبداع تحوّل حالات الحزن إلى متعةٍ يكويها فراقُ الأحبّة... ويخلدُ منْ تودعين في لوحاتٍ تُكرّرُ قراءتُها...
تعزيتي لكِ ... وهبكِ الله عمرًا مديدًا
إرسال تعليق