الثلاثاء، 17 يناير 2017

فاتن حمامه! لا بأس إن نجوتِ من جحيمنا (2015)



     يجب أن يموتوا... وإن لم يفعلوا فعلينا أن نقتلهم... فجمالهم لا يلائم قبحنا، وصدقهم لا يناسب أقنعتنا، ورقيّهم لا يليق به الدرك الذي وصلنا إليه.

     ليس الأمر حنينًا شاعريًّا إلى زمن مضى، ولا وقوفًا على أطلال أمجاد عبرت، بل هو لحظة مصارحة مع الذات، تستعاد مع رحيل كبار نبدو صغارًا أمامهم، صغارًا لأنّنا لم نتعلّم منهم الصبر والتأنّي والاجتهاد واحترام الآخر والعمل والوقت.
     رحيل فاتن حمامة، بعد رحيل رعيل كبير من الفنّانين والمبدعين هو أكثر الأمور طبيعيّة في هذا الزمن الشاذّ، فلا هي تشبه بشاعة ما صارت الحياة عليه، ولا داعيَ بعد الآن لابتسامتها البريئة في زمن القتل والعهر والذبح والتحريم... وليتوقّف المترحّمون عن الدعاء لها بالغفران، فإن كان فنّها لن يشفع بها، فلن تشفع لها دعوات من لا يملك قبسًا من نور ضحكتها، أو نسمة من لطف روحها.

     يجب أن يموتوا... من بقي بعد؟ فليموتوا ولنعرف أنّنا صرنا في جحيم حقيقيّ، ولنكفّ عن هذا التفاؤل الساذج، والحلم الغبيّ، والانتظار العقيم. فلن يكون الآتي أفضل مهما كثرت برامج نبش المواهب وإطلاق النجوم والتنقيب عن الفنّانين... ولن ينضحَ إناء بغير الفساد الذي فيه... 

     الصوت الجميل سيجد تاجرًا... والرقص الجميل سيجد قوّادًا... والعزف الجميل سيجد قاتلًا... والشاعر الجميل سيجدون له فتوى تحلّل قتله...

     لم يكونوا قدّيسين وأولياء صالحين، لم يعطوا دروسًا في العفّة ويلقوا عظات عن الشرف، لكنّهم كانوا شغوفين بالفنّ... مجانين يبحثون عن الفردوس المفقود فيجدونه في النغمة والصوت والكلمة وعين الكاميرا وحركة الجسد... مهووسين بالرغبة في خلق عالم يطرح أسئلة ولا يدّعي معرفة الأجوبة... مسكونين بحلم الخلق... مؤمنين بأنّهم أنصاف آلهة يرى الواحد منهم في الآخر صنوه ومتمّمه ونصفه الثاني لتكتمل الألوهة في الفنّ الذي لا خلاص للعالم من دونه...

     لم يخطر لي يومًا وأنا أمام إبداعات فنّاني مصر ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين أنّ هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى دين وطائفة ومذهب وبلد... لم تكن صباح مسيحيّة ولم يكن فريد الأطرش درزيًّا ولم تكن فاتن حمامة مسلمة... لم يكن شوشو سنيًّا وعاصي الرحباني أرثوذكسيًّا وبرج فازيليان أرمنيًّا ووديع الصافي كاثوليكيًّا وزين شعيب شيعيًّا، لم تكن هند رستم مصريّة ومنى واصف سوريّة وهند أبي اللمع لبنانيّة، لم يكن بدر شاكر السيّاب عراقيًّا ومحمود درويش فلسطينيًّا ومحمد الماغوط سوريًّا...
     كان الفنّ وطنهم ودينهم ومذهبهم وإمامهم وشيخهم وقدّيسهم... وكنّا أمامهم نخشع ونصغي ونتغيّر ونحلّق... 
     لكنّهم تعبوا من اجتراح معجزات الخلق وتعبنا من الحلم، فليرحلوا وليتركونا بلا أحلام وآمال... فاليأس لا يتطلّب جهدًا، والقعر آمن لا يقع أحد منه.

     فاتن حمامة... أيّتها الفاتنة البيضاء... موسم السلام لمّا يأتِ بعد... فاذهبي إلى حيث لا رصاص ولا مدافع ولا أطفال يموتون، واطلبي من الله أن يغفر لمن لم ير منّا أنّ الفنّ صورة السماء ومثالها. ولا بأس أن تموتي... لا بأس أن ترحلي... لا بأس إن نجوتِ من جحيمنا بعدما جحدنا بفضل نعيمك الإبداعيّ!   

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.