جردة حساب عند منتصف الليل والعمر
عند منتصف الليل الذي وضعها في المقلب الثاني من حياتها، نظرت المرأة الخمسينيّة إلى دفتر حسابها المصرفيّ فوجدت أنّ حصيلة عمرها الماليّة توقّفت عند خمسين ألف ليرة لبنانيّة فقط لا غير. ثمّ نظرت إلى كفّها المرميّة في حضنها وعدّت على أصابعها الخمس اللاءات الخمس: لا مال، لا حبيب، لا ولد، لا بيت، لا عمل. وحين أعجبتها اللعبة نظرت إلى أصابع يدها الثانية وأحصت: لا صحّة، لا سيّارة، لا مجوهرات، لا أصدقاء، لا أقرباء. ولو كان للمرأة الخمسينيّة عند هذه اللحظة الجلد كي تستمرّ في اللعبة لتابعت وهي تقول: لا وطن، لا أمن، لا سلام، لا مستقبل، لا حياة...
عند منتصف الليل الذي أمضته المرأة الخمسينيّة وحيدة، جامدة الدمعة، اكتشفت أنّها ستواجه عامها الحادي والخمسين وقد تحرّرت من كلّ شيء وكلّ أحد. ولو قيل لها وهي في مراهقتها بأنّها ستكون على هذه الحالة في هذه المرحلة من عمرها لخافت وتمنّت الموت قبل أن تواجه ما ستواجهه. ولو سئلت في سنوات شبابها الأولى عن رأيها في ما ستكون عليه حياتها وهي في الخمسين لكان جوابها ملوّناً بألوان أحلامها القزحيّة، ولم يكن ليخطر على بالها وهي تنطلق في تجارب العمر أنّها لن تحصد على مرّ السنين سوى الندوب في جسمها وروحها وقلبها. وهل كان ممكناً أن تحدس عهدذاك أنّ هذه الندوب نفسها ستكون الأحرف الأبجديّة التي ستقرأ بواسطتها دروس الحياة وتصرّفات الناس وتغيّرات الدهر؟ والغريب أنّها كلّما قرأت صفحات جديدة غرقت في دفء من نوع نادر، يشبه عالماً أليفاً كانت فيه تحيا، أو عالماً تعرف بطريقة ما أنّه موجود ويتوقّع وصولها إليه، وكانت سكينة غامرة تلّفها وتهدهدها فلا تخشى ما ينتظرها في الغد.
أغمضت المرأة الخمسينيّة عينيها في عتمة وحدتها وشعرت بأنّ ذراعَي الكون تحملانها وتعبران بها في أمان كلّي عبر ضباب هادئ/ الهدوء الذي يأتي بعد عصف العواطف لا قبلها، وغامض/ الغموض الذي يغري بالولوج إليه لا بالهرب منه، ومثير/ الإثارة التي تحرّك القلب وتحفّز العقل ولا ترهق الجسد. وإلى هذه الرؤيا أسلمت روحها، وابتسمت في حنان. وفي غمرة رضاها عن نفسها وعمّا حولها شكرت المرأة الوقت: الوقت الذي شيّب شعرها ولكنّها لولاه لما نسيت غدر الغادرين/ الوقت الذي أهدل جلدها فوق عظامها الرقيقة ولكنّه خفّف في شكل أكيد من غضبها وثورة روحها/ الوقت الذي أخذ منها أحبّاء ووهبها أحبّاء آخرين/ الوقت الذي جعلها ما هي عليه الآن/ الوقت الذي أعطاها بكرم شديد الفرص كي تتعلّم كلّ يوم درساً جديداً من دروس الحكمة.
فتحت المرأة الخمسينيّة عينيها ورأت إلى نفسها، وأعادت إحصاء أصابعها وهي تنشد نشيد حريّتها التي ضحّت من أجلها بالكثير، وتطمئنّ إلى خلاصة عمرها حتّى الآن: لقد عاشت، وحين فرضت عليها الحياة ما لا قدرة لها على مقاومته استفادت منه ومضت قُدماً.
ألقت المرأة الخمسينيّة نظرة جديدة على وجوه الذين ظنّت أنّهم عبروا في حياتها وتأمّلت حيواتهم بطريقة مختلفة، فتأكّدت ممّا كانت تخشى الاعتراف به لنفسها قبل الخمسين من عمرها: ليسوا هم العابرين، هم قابعون في أماكنهم وبيوتهم وعوالمهم المنظّمة، وهي التي تعبر تاركة إيّاهم في أمانِ ما يعرفونه، لتتابع سيرها نحو ما لا تعرفه بعد، ولكنّها لا تزال ترغب في اكتشافه مع أنّها صارت في عرف الجماعة في منحدر عمرها.
وحين نامت المرأة الخمسينيّة كانت تفكّر في أنّ رصيدها في البنك لا يزال يسمح لها بشراء كتاب شعر لم تقرأه بعد وستجد حتماً فكرة تدهش عقلها أو كلمة تأسر قلبها أو صورة تداعب خيالها، فاطمأنّت إلى غدها.
صحيفة النهار - الثلاثاء 23 شباط 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق