أنت تخيفني كما تخيف الولادة الجنين الذي لا يعلم أنّه مقبل إلى الحياة، فيقاوم اليد التي تمتدّ لتخرجه من عتمة المياه إلى الهواء والضوء
أنت بهدوئك تشكّل خطرًا على عصبيّتي ومزاجيّتي وتقلّبات الطقس في سماء حياتي، فأحاول، وأنا أكذب على نفسي، أن أهرب منك خشية أن تروّض ثورتي وتقلّم أغصاني المجنونة
أنت بما في عقلك تهدّد اطمئناني إلى ما في عقلي، فأتحدّاك وأتحدّى نفسي لأستحقّ أن أدعى لك شريكة في جوهرك
أنت بعاطفتك الرصينة تحيط عاطفتي الهوجاء وتمنعها من ممارسة جنون عصفها
أنت بحسّك المرهف تشذّب أشواك كلماتي وتطلقها فراشات ملوّنة في عالم، النور فيه يشعّ ولا يحرق
آه يا أنت كيف تستطيع أن تنقض منطق الجغرافيا والتاريخ وتكون قريبًا إلى هذا الحدّ وأنت في أرض لا أعرفها ولا تعرفني، وحاضرًا إلى درجة لا تصدّق وأنت كنت في ماضي أحلامي عن مستقبل أيّامي؟
تندهني عيناك إلى بحيرات حنان لا حدود لها، فأخلع عنّي تعب الأيّام وأرتمي فيها عارية كما خلقتني يا حبّ.
وهناك في عينيك لا وحش غريبًا تُحكى عنه الأساطير، ولا عمق مخيفًا لا يُسبر غوره، ولا بقايا مراكب شلّعتها الرياح،
هناك في عينيك مياه ساكنة حالمة أليفة كمياه الرحم لجنين لا يريد أن يخسر الأمان والسكينة.
أعيد اكتشاف جسمك كأني ألتقي به للمرة الأولى،
أتحسّس كلّ جزء فيه بأناملي وشفتيّ وأسكر بعطر اللذة التي تفوح من خلاياه فيصير جسمك آلتي الموسيقيّة ألاعب أوتاره المشدودة أو
كتابي المفتوح أقرأ فوق سطوره كلمات اشتياقك إليّ أو
ورقتي البيضاء التي أكتب فوقها بحبر عينيّ رغبتي فيك، أو
يصير جسمك بساطي السحريّ الذي ينقلني من عالم إلى عالم ومن سماء إلى سماء
وأنا آمنة مطمئنّة سعيدة فرحة محلّقة لا أرتبط بالأرض ولا أتيه في الفضاء.
في خضمّ الصراعات والتهديدات وأمام الموت الذي يهجم جوًّا أو ينبثق من البحر مفترسًا أو شاقًا باطن الأرض مزلزلاً،
يأتيني صوتك الهادئ كأنّك تكلّمني من عالم آخر لا صراع فيه ولا تهديد ولا موت.
تصل إليّ نبرات صوتك فتصلني بمكان ليس فيه إلاّ الجمال والترفّع والسموّ،
وتمتدّ كلماتك دربًا ريفيًّا أخضر أسير فوق عشبه حافية لأصير عند بابك المفتوح في انتظاري زهرةً بريّة بيضاء تُغرق وجهك في فوح عطرها الربيعيّ.
أقاوم بوجودك غياب الآخرين، وبذكائك غباءهم، وبحبّك حقدهم.
أتسلّح بك فكرة وعاطفة وصورة وموسيقى وأواجه معك الجهل والكسل والجبن.
ولا أريد منك شيئًا لأني أريدك كلّك،
ولا أطلب منك شيئًا لأنّني أطلبك في كلّ الأشياء والمخلوقات والناس،
ولا أطالبك بشيء لأنّك أعطيتني ما أريده.
كيف صرت تعرف ما تعرفه؟
من علّمك أن تكون رجلاً في زمن عزّت فيه الرجولة، وأن تكون قادرًا في عصور العجز، وأن تكون الحنان الذي لم تمتلكه امرأة؟
أيّة آلام تلك التي صهرت روحك وصقلت طبيعتك وجعلتك ما أنت عليه؟ لا تملك شيئًا ولا تريد أن يمتلكك أحد،
تمضي كأنّ عبورك مخطّط له منذ الأزل، وترحل غير آسف إلاّ على أنّك لم تحبّ أكثر.
وهل يستطيع جسمك المرهق أن يحبّ أكثر من ذلك؟
من علّمك أن تعشق الجمال، وأن تحترم الكائنات، وأن تبحث عن المعرفة في أصعب الأمكنة، وألاّ تضجر منّي؟
هل ترى إلى نفسك وأنت تولد من ذاتك متجدّدًا كلّ مرّة، رائعًا كلّ مرّة، عارفًا، شاعرًا، عالمًا، عاشقًا؟
أنت يا من قلت عن نفسك أنّك لا شيء ولا أحد،
أنت المنسحب إلى ما خلف واجهات الأضواء المخادعة،
المطمئنّ إلى سكينة نفسك،
أعلن استمراري في عشقك وموافقتي على الانتماء معك إلى عالم سويّ بنيناه على قياس ما نريده لهذا العالم،
وهل نريد لهذا العالم إلاّ أن يعرف الشغف الذي نحن فيه؟
* صحيفة "النهار" الثلاثاء 2 شباط 2010
من كتاب "أحببتك فصرت الرسولة"
من كتاب "أحببتك فصرت الرسولة"
هناك تعليقان (2):
أقرأ ما تكتبين دائماً بشغف وتظل الكلمات عالقة بذهني وفكري.
هالمقالة رائعة:
فيها نعيم اللقاء ومرّ الفراق
فيها الأمل وفيها اليأس
فيها الأمان وفيها الخوف من الرحيل
انو اشتقت للمرور من هون
لك عم اقراك كل مرة أول بأول ، بس صايرة كسولة + معجوقة بمليون شغلة
فيكي شي معدي
هديك المرة حسيت اني بدي اكتب بكثافة ، ( متلك ) هيك مواظبتك عالكتابة
بتفتح شهيتي عالحكي
:)
شكرا ً شكرا ً
إرسال تعليق