أذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التراب تعود، لتنبثق منك نبتة خضراء تأكلها النعجة التي ستصير طعامًا على مائدة أولادك، وزهرة ربيعيّة تمتصّ رحيقها نحلة نشيطة وتحوّله عسلاً يتلذّذ أحفادك بحلو طعمه، وشجرة وارفة الظلال يفيء إلى برودة خيمتها من أتعبه السفر وأرهقته أهوال الطريق.
• • •
أذكر يا إنسان أنّك تراب فيه التبر والخصب وبذور الحياة، وأنّك كمشة حُبّ نثرتها يد الإله في حضن الأرض، وأنّ فيك العطش إلى المطر، والجوع إلى الشمس، والرغبة في إنجاب الثمار، والعشق لجذور الغابات، والشوق لسيل الأنهار.
• • •
أنت تراب أيّها الإنسان فكيف تعرف الجوع والعطش وفي تربتك المجبولة بمياه الحياة تنمو جذور وجذوع وأغصان وأوراق وأزهار وثمار؟ وكيف تعرف البخل ومن تربتك يخرج العطاء؟ وكيف تحتقر نفسك وفيك خلاصة الكون؟
• • •
التراب الذي هو أنت أيّها الإنسان ليس موطئ قدمك إلاّ إذا انغرستْ فيه جذورك، وعلى قدر ما تمتدّ هذه الجذور المتعانقة في باطن الأرض تتوزّع الأغصان طليقة لتعانق السماء. والتراب الذي أنت منه لن تعود إليه غذاء إلاّ إن غذّيت عقلك بالفكر وقلبك بالحبّ وخيالك بالجرأة وجسمك بالمتعة. والتراب الذي أنت ذائب فيه لن يكون لك سريرًا وغطاء إلاّ إن استحممت بدموع الشوق والفرح، وإلاّ فأنت تجمُّع فساد لا تطيق ملمسك الأرض ولا ترضى بك السماء.
• • •
نعم، أذكر يا إنسان أنّك تراب لتفهم أنّك أكثر من إنسان، ولكن هل يستطيع عقلك البشريّ أنّ يتحمل فكرة أنّك الضوء والعتمة، وأنّك الفوق والتحت، وأنّك التاريخ والجغرافيا، وأنّك الما قبل والما بعد، وأنّك اللحظة الحاضرة في ذهن الإله في كلّ لحظة، وأنّك الحرّ والبرد، وأنّك الوصول والانتظار؟ هل يستطيع عقلك أن يتحمل أنّك أكثر من تراب، وأكثر من إنسان، لأنّك عشق الإله؟
• • •
أجل، تذكّر أيّها الإنسان المجبول في صبيحة يوم التكوين من تراب الأرض وندى السماء، والمزيّن بالضوء المشعّ من روحك عبر عينيك، أنّك صديق الإله الذي أنجبك شوقًا إليك، وأنجبك من شوقه إليك، وأنّك ابنه وحلمه وصورته في مرآة الحبّ.
• • •
وحين تطأ قدماك التراب، لا تخشى ذوبانك فيه، إنّه شرنقتك التي منها تخرج فراشة، فغلّ في التراب كما المطر واخرج ينابيع وجداول وسواقي وانبت رياحين ونباتات وأزهارًا. فأنت، عبر العناصر كلّها، من الإله خرجت وإلى الإله تمضي.
* صحيفة النهار - الثلاثاء 16 شباط 2010