الممثّل الراحل نبيه أبو الحسن (1934 - 1993) في دور "أخوت شانيه" من تأليف أنطوان غندور |
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(2)
(2)
الجنون الحكيم
الجنون الحكيم أو الحكمة المجنونة، هذا ما قاله الأمير بشير الشهابيّ عن
"أخوت شانيه"، المجنون الذي كان يسلّي الأمير بـ"جنونه" وأوصل
المياه، بحكمته وبُعد نظره، من نبعَي القاع والصفا إلى القصر الجديد، قصر بيت
الدين. ويعرّف فؤاد افرام البستاني عن هذا "الأخوت" في كتابه "على
عهد الأمير" قائلًا: "كان رجلًا خفيف الروح، عذب الحديث، حلو النكات،
يُصاب من وقت إلى آخر بنوع من السويداء، فيأخذ بالهذيان المضحك. فكان جنونه سارًّا
مفكّهًا، والجنون فنون" (ص32). وبعدما عجز المهندسون وبعض
"المعلّمين" البارعين في فنّ البناء عن الوصول إلى الحلّ الأقلّ كلفة
لجرّ المياه، أعلن "الأخوت" أنّه قادر بسهولة وذلك بأن يأمر الأمير
"بصفّ الزلم من نبع القاع إلى بتدّين وليحفر كلّ واحد ذراعًا أمامه، ثمّ توصل
الحفائر ويجري الماء في القناة" (ص35). ويؤكّد الأمير عند سماع ذلك أنّ من
المجانين من يكون أحكم العقلاء.
ويروي "سلام الراسي" أخبارًا طريفة عن مجانين عرفتهم قريته "إبل السقي" في جنوب لبنان، وتناقل الناس أخبارهم الطريفة من جيل إلى جيل، ويقول
نقلًا عن "سهيل الحمصي" "إنّ شخصيّة القرية لا تكتمل إلّا إذا عاش
فيها مجنون عريق يكون له دور طريف في حياة القرية" (ص135)، ثمّ يخبر في
مجموعته "الجنون فنون" قصّة عسّاف الجليلاتي الذي ادّعى الجنون تهرّبًا
من الخدمة الإلزاميّة زمن الأتراك، حين كان الشبّان يُجمعون ويرمى بهم في ساحات
المعارك. وقد "برطل" عسّاف هذا قائمقام "مرجعيون" بواسطة أحد
أفنديّة المنطقة ليجد له عذرًا يعفيه من الخدمة، وشهد الأفندي أنّ الرجل أخوت.
ولكنّ عسّافًا رفض هذا العذر واعترف بأنّه اتّفق مع الأفندي على القول إنّه قصير
النظر لا مجنون. فقال الأفندي: "وهل تريد يا حضرة القائمقام برهانًا أسطع من
هذا على جنون هذا الشابّ؟" فوافق القائمقام وأكّد جنون عسّاف لأنّ كلامه
فضحه، واضطرّ الرجل إلى تمضية حياته وهو يؤكّد للناس جنونه كي لا يقع في تهمة خداع
الدولة للتخلّص من واجب الخدمة العسكريّة. انتهت الحرب ولكنّ عسّافًا وجد صعوبة في
الرجوع إلى الصواب.
وفي حكاية "مجنون يحكي وعاقل يفهم" يصف سلام الراسي مجنونًا عاش
في "إبل السقي" أيضًا اسمه عبدالله نصّار. ومن مظاهر جنونه أنّه كان
يرسل شعر رأسه ولحيته ويجلس قرب العين، وحيدًا شارد الذهن، يغنّي أبياتًا من
العتابا من نظمه، وعلى سجيّته، من دون أن يتقيّد بشروط القافية أو الوزن. وحين
استدعي الشابّ للمثول أمام جاويش درك مرجعيون أيّام "سفر برلك" راح
يغنّي قائلًا:
نزل دمعي ع خدّي شروش كبّه
على قبور النصارى حيّكوا اليبرق
سبحان من خلق الجرذون يقطر زيت
حبّك بقلبي متل لبيط الكِدش
وقال الناس يومذاك أنّ عبدالله قد أعفي من الخدمة العسكريّة لأنّه مجنون،
وقال آخرون بل لأنّه شاعر، فالشعراء كذلك لا يصلحون للحرب.
(يتبع)
(يتبع)
هناك تعليق واحد:
شكرا على الموضوع
إرسال تعليق