Georgios Roilos (1867- 1928) - The Poets |
العالم سيصير أشدّ وحشة
ملحق
النهار – السبت 21 آب 1999
في
الشام، يموت عبد الوهّاب البيّاتيّ بعيدًا عن العراق. وفي صنعاء يقتل أحد الشعراء
ثلاثة آخرين هجوه، ثم يُقتل هو وولده. وفي الأردن ينهار اثنان من الكتّاب
الأردنيّين المشاركين في إضراب عن الطعام، احتجاجًا على تعطّلهم عن العمل. وفي
بيروت، عاصمة الثقافة لهذه السنة، شهر حسومات تشجيعًا لحركة التسوّق. أيّ علاقة
بين هذه المشاهد اثقافيّة، وأيّ دور لهذه العواصم العربيّة؟
من
السذاجة ربّما أن نطرح أيّ سؤال. ولكن ماذا لو تدخّلنا وحاولنا تعديل هذا
السيناريو القَدَري؟ ماذا لو وضعنا بندقيّة الشاعر في يد عبد الوهّاب البيّاتيّ،
ونقلنا الكتّاب الأردنيّين إلى العراق، حيث يموت الأطفال جوعًا من دون إضراب أو
مطالب، وأعلّنا بيروت عاصمة التسوّق، وأقمنا مأتمًا للثقافة مع دفن هذا الشاعر
اليمنيّ المنتفض لكرامته، والذي ما وجد ردًّا على الشعر أبلغ من الرصاص، أو قدّمنا
حسومات على بطاقات المهرجانات الثقافيّة بدل الحسومات على الأحذية والملابس؟
فلنبدأ
من بيروت: يروي أحد تجّار الذهب قصّة عائلة دخلت متجره لتبيع ما تملكه من خوات
وأساور وأقراط. عائلة مؤلّفة من الوالدين وبناتهما الصغيرات الثلاث. وحين تعجّب
التاجر من رغبة هؤلاء الناس في بيع هذه الكميّة المتاضعة من الذهب في فترةٍ انخفضت
أسعاره إلى أدنى المستوياتـ ردّت الوالدة: نحن مضطرّون، لم نستطع أن نسدّد آخر قسط
مدرسيّ، والصغيرات يرغبن في الحصول على دفاتر علامات أسوة بزميلاتهنّ، خصوصًا أنّهنّ
من المتفوّقات. ويقول التاجر إنّه لم ير حتّى الآن مشهدًا مؤثّرًا كهذا، وفي
الأخصّ حين راحت الفتيات ينزعن، راضيات قانعات، من أيديهنّ وأعناقهنّ، هدايا
الخالات والعمّات والأقرباء ويضعنها على الطاولة التي تخفي قامة أكبرهنّ. تدمع
عينا الوالد الغارق في عجزه، ويترك لزوجته أن تتسلّم المبلغ الزهيد، أمام عيون
أطفاله الموعودة بدفاتر علامات تعد بالثقافة والمستقبل المضمون، في بلد ضحّى
أبناؤه دائمًا بالأرض، وهي أغلى ما يملكونه، في سبيل العلم.
***
ومن
الأردن، نقلت "وكالة الصحافة الفرنسيّة" ووفق بيان صدر عن الكتّاب المشاركين
في إضراب عن الطعام، أنّ اثنين من المشاركين أصيبا بانهيار جسديّ. وذكرت
"النهار" في عددها الصادر في 6 آب 1999 أنّ ستّة وعشرين من الكتّاب
الأردنيّين العاطلين عن العمل شرعوا في تنظيم إضراب مفتوح عن الطعام
"احتجاجًا على تجاهل الجهات المعنيّة أوضاعهم السيّئة". وقد اعتبر أحد
هؤلاء الكتّاب خليل محادين أنّ التحرّك هو أوّلًا "صرخة احتجاج على سياسة
الدولة المهيمنة على الثقافة والإعلام".
وفي
العدد نفسه من الصحيفة، ولكن من اليمن هذه المرّة، أنّ الشاعر عوض مشرف عبدالله
(55 عامًا) استبدّ به الغضب حين أسمعه خصومه أبياتًا مقذعة من الشعر، فردّ عليهم
ببندقيّة آليّة كانت معه، فقتل ثلاثة منهم. وأضاف شهود أنّ أنصار الفريق المنافس
قتلوه مع ابنه عبدالله (15 عامًا) بينما كانا يلوذان بالفرار.
ألم
يقل عبد الوهّاب البيّاتي يومًا "يموت الشاعر منفيًّا أو مجنونًا أو
منتحرًا"؟
يبدو
المشهد ككلّ فصلًا عبثيًّا من فصول مسرحيّة مملّة لا يُعرف موعد نهايتها: الثقافة
تتزيّا بأخلاق السلطة، ثمّ تنزل إلى الشارع، وبدل أن تعطيع سموّها ونبلها، تلبس
فوضاه وغوغائيّته، حتّى صار الشعراء يذهبون إلى الأمسيات الشعريّة مدجّجين
بالسلاح، يقتلون ثمّ يهربون.
***
بين
السطة والشارع، أين يقف الأدباء والشعراء؟
عام
1994، نشر صقر أبو فخر، في مجلّة "الناقد"، مقالة بعنوان
"الطفيليّون" وذلك ضمن ملفّ خاصّ بأحوال الثقافة والمثقّفين. وفيها
يعتبر الكاتب "أنّ الكتّاب والشعراء والشيوخ والكهنة هم، في الأساس، كائنات
طفيليّة، تعيش على هامش الإنتاج والفئات المنتجة، وتكسب عيشها من اتّصالها بخدمة
فئة تملك الحاضر (الدولة) أو من ارتباطها بجماعات تملك المستقبل (المعارضة)".
ويرى
أنّ هذه الطبقة – عدا القليل – كانت في خدمة السلطة لا السلطان، لأنّ أفرادها لا
يخجلون من التصفيق للحاكم الجديد، بعد لحظات من زوال عهد الحاكم القديم.
فإذا
كانت هذه هي حال الطبقة المثقّفة، والمفترض أنّها المثال الذي يحتذى، فكيف تكون
حال المجتمع وهو ينظر إلى هذه القدوة، ويحاول أن يمشي على خطاها؟
إنّ
المشاهد "الثقافيّة" التي أشرنا إليها تفضح بطريقة مؤلمة الحال التي
وصلت إليها طبقة المثقّفين، وشعارها – أي شعار تلك المرحلة – التخبّط والتناقض
وانعدام الرؤية والرؤيا. فالمثقّف المتوقّع منه أن يكون خارج إطار أيّ سلطة زمنيّة
أو دينيّة، نقابيّة أو وظيفيّة، على ما يقول إدوارد سعيد، نجه صورة طبق الأصل عن
هذه السلطة، يحمل سلاحها ويقول كلامها، ويمارس إرهابها ويرفض، على مثالها، أي
معارضة، بل ينفّذ في معارضيه ما يرفض أن تفعله السلطة به.
ثمّة
مفارقة في ما يفعله هؤلاء المثقّفون. يهرب أحدهم من السلطة في بلاده إلى سلطة أخرى
في بلد آخر. وفي المقابل، فإنّ بعض مثقّفي البلد المضيف قد تركوه أيضًا هربًا
ولجأوا إلى حماية سلطة أخرى. وهكذا تستمرّ اللعبة بحثًا عن مكان أكثر أمانًا وتتاح
فيه حريّة التعبير والإبداع. حتّى إنّ بعض المثقّفين لا يتورّع عن الهرب من سلطة
عسكريّة ليحتمي بسلطة دينيّة مثلًا، أو العكس، فيبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
لن
يلوم أحد الكتّاب الأردنيّين على احتجاجهم، لكنّ الدولة – أي دولة – لا تعترف
بالهيمنة، بل لا تعتبر أنّ ما تقوم به هيمنة، وهي على كلّ حال لا تعرف إلّا أن
تكون كذلك. ومحاولة الكتّاب الأردنيّين، كمحاولة أيّ إضراب لفئة "غير
منتجة" على حدّ تعبير أصحاب السلطة، ستجد طريقها إلى الحلّ بالوعود والتمييع
والتناسي والتأجيل. وإذا وعدت السلطة هؤلاء الكتّاب بفرص عمل فهذا يعني زوال صفة
المثقّف، المفترض أنّه معارض، عن هذه الجماعة المتراجعة عن إضرابها. وهكذا تبدو
الأزمة كأنّها بلا حلّ. فالدولة لن تتنازل عمّا يسمّيه المعترضون هيمنة، وإن أشركت
المعترضين في سياستها فذلك يعني انتهاء دورهم الرياديّ. ولذلك وصل هؤلاء المضربون
عن الطعام إلى النقطة التي يبدو فيها التراجع مشكلة والاستمرار مشكلة أخرى.
في
المشهد العبثيّ الذي وصفناه، تبدو الأزمة على مفترق طرق. فالمثقّفون ما عادوا
قادرين على الاضطلاع بدور الموجِّه والمصحّح. وحين يعجز هؤلاء عن التمييز بين ما
يريدونه من السلطة أو ما يرفضونها فيها فذلك يعني أنّ ثمّة خللًا خطيرًا في فهم
المثقّف دورَه الصارخ في وجه من هم في مراكز النفوذ والسلطة.
إنّ
الصورة ونقيضها هما ما يحكمان عالم الثقافة اليوم. فالكاتب الجائع العاطل عن العمل
تقابله مذيعة مغرية الجمال، تسأله بحركة من يدها التي تحمل ساعة خياليّة الثمن، عن
سبب إضرابه عن الطعام. وتتابع عينا الكاتب الجائع الساعة الثمينة، قبل أن يجيب –
مجّانًا – في حين ترتفع قيمة رصيدها في المصرف ثمنًا لسؤالها الذكيّ وبرنامجها
الثقافيّ.
وموت
الشعراء يقابله فرح السلطة التي ارتاحت من لسان وقلم ومسدّس كان من الممكن أن
توجّه إليها.
بين
هذه الثنائيّات، تفقد الثقافة يومًا بعد يوم موقعها، ويصير موت الشعراء خبرًا في
صحيفة تُهمل مساء، ويتحوّل العالم مكانًا أكثر وحشة وحزنًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق