ميّ التي حُجر عليها |
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(3)
(3)
مجنون العلم
إنّ مفهوم الجنون عند العامّة لا علاقة له بالناحية العلميّة الطبيّة
المعترف بها. ولا يفهم أحد كيف يقرّر الناس من هو المجنون ومن هو العاقل. ولكن
"الغريب" – بحسب تحديدهم لمعنى الغرابة – هو المجنون حتّى يعود إلى
الصراط المستقيم، وكثيرًا ما ترافقت هذه التهمة في بدايات هذا القرن مع كثرة العلم
وتعدّد اللغات المكتسبة والشهادات العالية. وكم قالوا عن أحدهم: يا حرام! فلان
جُنّ من كثرة ما تعلّم. ولذلك، ربّما، قلّ عدد النساء "المجنونات"، فهنّ
كنّ محرومات زمنذاك من العلم، وإذا جنّت إحداهنّ فلأنّ حبيبها قد غدر بها وتركها
تجترّ العار والوحدة، وهاجر إلى ما خلف البحار.
في بلدة من بلدات جبل لبنان، يتناقل الناس أخبار ذلك المغترب العائد من
البرازيل بلقب أجنبيّ وثورة ماديّة بسيطة، ولكنّه كان يجيد التكلّم بسبع لغات –
كما قالوا – وكان حديثه جديدًا وغريبًا، فنظر إليه أبناء بلدته وتأسّفوا على حاله
وعاملوه طوال الوقت على أنّه مجنون يدارونه ويشفقون عليه، فعاش بينهم طائرًا يغرّد
خارج سربه.
وفي بلدة أخرى، مجنون من نوع آخر، يضحك باستمرار، يلاحق النساء ويتحرّش
بهنّ محاولًا رفع فساتينهنّ، لا يهدأ ولا يصمت. وعبثًا حاولوا ردعه أو إقناع أهله
بعزله. وعلى طرق إحدى بلدات المتن، تتجوّل امرأة غير لبنانيّة، لا تصمت ولا تهدأ،
لا يراها الناس إلّا مرتدية قميص النوم، وتلبس فوقه "الكومبينيزون"،
لأنّه أجمل والدانتيل فيه أعرض وحرام ألّا يراه الناس بحسب قولها. لا يستطيع أحد
أن يحزر متى يفلت لسانها بالصراخ والشتائم، ومتى تهدأ وتخبر حكايتها ومشاهداتها،
لا تؤذي ولا تتسوّل، تعمل في البيوت، تختفي أيّامًا ثمّ تظهر فجأة. يقول البعض
إنّها امرأة شديدة الذكاء و"محتالة"، ويقول آخرون: مجنونة ما بدها إلّا
دير الصليب.
مي زيادة
حين بدأت المصحّات تستقبل نزلاءها، دخل إليها كثر من الناس، بعضهم كان
خطرًا، قد يؤذي نفسه أو الآخرين، وبعضهم ضحيّة الحرب، وآخرون ما كانوا يعانون سوى
أعراض بسيطة وعابرة، ولكنّ إخوتهم كانوا يبعدونهم مدعومين بشهادة أهل القرية عن
هؤلاء الغريبي الأطوار، وفي غياب الوالدين، يضع الأخوة أيديهم على حصّة أولئك من
الإرث.
لم يكن الجنون في عرف العامّة حالًا مَرضيّة بل كان غاضبًا إلهيًّا وعقابًا
سمويًّا، ومن يدخل المصحّ يُنصح بألّا يغادره وإن شفي، فنظرات الناس لن ترحمه ولن
تغفر له جنونه.
في كتاب "فرسان الكلام" يصف توفيق يوسف عوّاد مشاعره بعدما استمع
إلى ميّ زيادة تلقي خطابها عن "رسالة الأديب في الحياة". وفي فصل بعنوان
"ميّ" يقول عوّاد في المقدّمة: "في أواخر آذار سنة 1938 ألقت
المرحومة ميّ خطابًا في الجامعة الأميركيّة في بيروت يصحّ عدّه للظروف التي أحاطت
به من أعظم الأحداث الأدبيّة في العالم العربيّ. كانت ميّ قد اتّهمت بالجنون،
وحُبس عليها ردحًا من الزمن في العصفوريّة، وأثارت قضيّتها ضجّة كبيرة في لبنان
وسائر الأقطار". ويبدأ عواد مقالته التي نشرها في "النهار"
متسائلًا: إلى من سيمظر الناس في الوست هول، إلى ميّ صاحبة المؤلّفات والمواقف
الخطابيّة والمقالات الرائعة أم إلى ميّ التي "حُجر عليها وسيقت من مصر إلى
لبنان سَوق السجين وزجّت في مستشفى المجانين وأدخل في روع الناس أنّها أصبحت
مخلوقة دون الناس بعد أن كانت فوق الناس" (ص45).
ومنذ زمن ليس ببعيد، اكتشفت هدى سويد أنّ الشاعر صفوان حيدر مرميّ في سجن
روميه بتهمة "الجنون"، وحرّك "الملحق" قضيّته المهملة وألّب
الصحافة والرأي العامّ حتّى أُطلق سراحه.
إنّ العرب في جاهليّتهم وضعوا الشعراء والمجانين في خانة الذين يتلقّون
أفكارهم من أرواح غير منظورة. ويقول فيليب حتّي في "تاريخ العرب" إنّ
الشاعر هو في الأصل رجل معرفة وُهب معرفة ما ستر وذلك بواسطة شعور خفيّ يوحيه إليه
شيطان خاصّ. والمجنون عندهم هو من سكنه الجنّ. ويقول كارل بروكلمن في "تاريخ
الأدب العربيّ" إنّ الهجاء كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم
بتأثير سحريّ. ومن ثمّ كان الشاعر إذا تهيّأ لإطلاق مثل ذلك اللعن يلبس زيًّا
خاصًّا بزيّ الكاهن. وقد زعم بعض العرب: "أنّ كلاب الجنّ هم الشعراء".
ومن هذا القبيل قول عمرو بن كلثوم:
وقد هربتْ كلابُ الشعر منّا
وشذّبنا قتادة من يلينا
ونستمع إلى المعنى نفسه تغنّيه صباح بكلمات الأخوين رحباني في مسرحيّة
"دواليب الهوا":
بيكفّيني كون مع شاعر مجنون
تمشي ما أعرف لوين
وأنا إمشي معك.
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق