تذكرُ جيّدًا تلك العشيّة من شهر أيلول. يجلسان إلى جانب الطريق التي لا يمرّ عليها إلّا
العاشقون أمثالهما.
تجلس
أمامه على حافّة الساقية التي تمرّ إلى جانب الطريق، يجلس وراءها.
تلقي
رأسها على صدره. يلفّ ذراعيه حول خصرها وينظران في الوقت نفسه إلى غيمة، ويحاولان
أن يتّفقا على شكل لها.
هواء
بارد يدفعها إلى الغرق في حضنه، ويدفع الغيمة إلى الابتعاد عن الشجرة.
قالت:
أنت الغيمة.
لم
يجب.
تابعت:
سيدفعك الهواء إلى الرحيل.
لم
يجب.
قالت
بعد قليل: أنا هذه الشجرة.
سألها:
هل أنت عتيقة مثلها؟
هي:
ربّما أكثر.
هو:
ستبقين في مكانك إذًا؟
هي:
على الشجرة أن تبقى في مكانها. أمور كثيرة تتعلّق بوجودها في مكانها. سيضيع كثر من
دونها.
هو:
العصافير؟
هي:
العصافير والصيّادون... والتراب.
هو:
وأنا؟
هي:
أنت غيمة تحمل المطر.
هو:
ألن تحتاجي إلى مطري؟
هي:
فلنسأل الهواء إن كان يسمح بذلك!
هو:
وإن حملني بعيدًا؟ هل يكون لك غيمة غيري؟
هي:
على الشجرة أن تشرب، وعلى الغيمة أن تهب ماءها.
هو:
كنّا نبدو متلاصقَين قبل هبوب الريح. والأوراق الصغيرة بدت مطمئنّة في قلب الغيمة.
هي:
لو جلسنا في مكان آخر لما رأينا أوراق الشجرة تلجأ إلى قلب الشجرة، ولما حضنت
الغيمة رأس الشجرة. يبدو اللقاء وهميًّا إلى أقصى الحدود.
هو:
لماذا تحبّين التراب فتنغرسي فيه عميقًا؟
هي:
لماذا تحبّ السماء فتحلّق فيها عاليًا؟
هو:
ألن يكون لنا لقاء؟
هي:
من يدري؟
هو:
لنغيّر الموضوع. المشهد مؤلم والهواء يأخذ الغيمة ويكاد يبدّدها.
هي:
ويتلاعب بأغصان الشجرة... بدأتُ أشعر بالبرد.
هو:
يبدو أنّ الشتاء سيكون قاسيًا.
هي:
لن نستطيع أن نأتي كثيرًا إلى هذا المكان.
هو:
من يدري متى نعود.
هي:
لم يأت غيرنا الليلة.
هو:
غيرنا وجد مكانًا آمنًا ودافئًا.
هي:
أتمنّى أن نأتي إلى هنا ولو صار لنا مكان آمن ودافئ.
هو:
لماذا اخترت أن تكوني شجرة؟
هي:
يطمئنني أن يكون لي وطن.
هو:
أنا لا أهتمّ.
هي:
كالغيمة، لا تطيق البقاء في مكان واحد.
هو:
للشجرة صورة لا تتغيّر.
هي:
أمّا الغيمة فنسمة واحدة تغيّر شكلها.
هو:
كأنْ لا شيء يجمعنا.
هي:
مزاجيّة الريح وهذا المكان كوّنا الصورة.
هو:
قصّتنا وهم إذًا.
هي:
متى ترحل؟
هو:
كيف عرفت؟
هي:
تحدس الأشجار بمواسم الريح والرحيل عندما تفقد أوّل ورقة من أوراقها.
هو:
قد أعود.
هي:
ومتى كانت الغيمة تعرف مصيرها. حبّات مائها ستتوزّع، وعندما تلتقي الحبيبات من
جديد، تتكوّن غيمة أخرى لا أعرفها.
هو:
أتريدين أن أبقى.
هي:
ومتى كانت الشجرة تقرّر مصير الغيمة. عندما تهبّ الريح ستغادر الغيمات أماكنها
وتبقى الأشجار وحيدة.
هو:
سأُنزل إذًا حبّات مطري وأغسل أوراقك، وأسقي جذورك وأمتدّ في شرايينك.
هي:
ومتى كانت الغيمة تقرّر موعد تناثرها. لم يأت الأوان بعد، ولم يحن موعد المطر.
ستنزل حبّات مطرك لتغسل أوراق شجرة أخرى، وتسقي جذورها وتمتدّ في شرايينها.
هو:
وأنتِ؟
هي:
أنا هنا. لن أختار غيمتي، كما أنّك لن تختار شجرتك. الريح تقرّر. وما دمتُ قد
اخترت أن أكون شجرة، وأنت اخترت أن تكون غيمة، فعلينا أن نقبل قرار الريح.
هو:
أشعر الآن بحزن شديد.
هي:
لأنّك اكتشفت أنّ ما كنت تظنّه حريّة صار وهمًا، وقرار رحيلك ليس قرارك.
هو:
هي الريح إذًا.
هي:
نعم، إنّها الريح. تدفعني إلى الغرق بين ذراعيك، وتدفع الغيمة بعيدًا عن الشجرة.
هو:
أتصدّقين أنّني أحبّك؟
هي:
أصدّق أنّك عاجز عن مقاومة الرغبة في الرحيل.
هو:
وأنتِ؟
هي:
أنا؟ ماذا؟
هو:
أما زلت تحبّينني؟
هي:
لا أعرف.
هو:
لا تعرفين؟
هي:
لا أعرف إن كان حبًّا أن ترغب أغصاني في أن ترتفع لتحضن الغيمة، وأن ترغب جذوري في
أن تمتدّ إلى حيث تسقط أوّل قطرة من مائها. ولكنّ الشجرة تعرف أنّ الريح أقوى من
ارتفاع غصونها وامتداد جذورها.
هو:
ليتنا لم نأت إلى هنا!
هي:
ولماذا نهرب من الريح والصور؟ وإلى متى نؤجّل ليلة الوداع؟
هو:
أنا لن أرحل الآن؟
هي:
مذ عرفتك وأنا أنتظر ليلة رحيلك. كلّ الناس ينتظرون عودة المسافرين وأنا أنتظر سفر
القريبين. قد أرتاح عندذاك من هذا الانتظار الثقيل.
هو:
أتتمنين أن أرحل؟
هي:
صرت أتمنّى أن أنتظر عودتك. أتعبني انتظار رحيلك... ولكنّي... أعرف أنّك لن ترجع
كما أعرف أنّني سأنتظر.
هو:
لأنّك شجرة؟
هي:
ولأنّك غيمة.
هو:
غاب النهار. هل نعود؟
هي:
هل تقبّلني قبل أن تشتدّ الريح؟
هو:
هل تصلّين لي كما كنت تفعلين؟
هي:
سأصلّي أكثر... كي لا يأتي يوم تبكي فيه الغيمة كونها غيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق