Marcia Babler |
هل هناك شعب آخر سوانا يغيّر هويّته بالسهولة التي يغيّر فيها ملابسه؟ أكاد أجزم أنْ لا.
ففي زمن ما بعد العولمة، وما بعد الحداثة، وما بعد فورة الاتصالات، وما بعد الخريطة الجينيّة، وفي وقت تطرح الإنسانيّة تساؤلات دقيقة ومخيفة عن صورة الإنسان المستقبليّ وما سيكون عليه وضعه، نبدو نحن مستسلمين لواقع ليست فيه اسئلة وجوديّة فلسفيّة أو علميّة طبيّة، أو روحيّة ماورائيّة. ونكتفي بردود فعل هوجاء على أفعال تتجرّأ حفنة من الناس على القيام بها معاكسة تيّار الاستكانة والخنوع والموت السريريّ. وحين نستجمع قوانا ونتنطّح للمشاركة في الشأن العام، ونسعى إلى تحديد هويّتنا يكون أقصى ما نفعله هو السؤال عن أحدث مطعم في البلد.
الزمن الآن زمن حجاب، حتّى ولو ارتفعت نسبة المثليّة الجنسيّة بين أبناء المجتمع الواحد وبناته، في شكل كبير وغير معترف به/ وزمن تطويب القدّيسين والقدّيسات حتّى ولو كان أتباعهم يفضّلون التقيّة على التقوى، والاستسلام على السلام، والمصانعة (المسايرة) على الصناعة. والزمن زمن رمضان المرتبط بالكسل والتغيّب عن العمل والمسلسلات التي لا تترك وقتًا للصلاة والتعبّد/ والميلاد المزيّن بالمصابيح المضاءة في الشوارع، بينما الناس يلعنون الظلمة في البيوت، والمرتبط بالأحذية الجديدة التي لا تكتمل فرحة الأعياد من دونها.
والزمن الآن زمن يعلو فيه صراخ التاجر الفاجر على تأمّل الأديب، وقرقعة الحديد في المعامل على همس القلم للورقة، وزعيق آخر صيحات الموسيقى على غناء العصافير. وحين تصير صبحيّة النسوان العاطلات عن العمل أطول وقتًا وأكثر ازدحامًا من أمسية شعريّة نعرف أنّ مقاربة الحديث عن الهويّة اللبنانيّة لن يوصل إلى نتيجة إن بقي يتمّ بالشكل الذي نقوم به، وحين تصل شتائم سائقي الباصات ونكات البرامج الفكاهيّة إلى آذان الناس باسرع ممّا تصل إليه آراء الحكماء نعرف أن لا هويّة لنا إلّا ما تفرضه علينا أهواؤنا، والهوى غلّاب، كما تقول الأغنية.
هل الوجه عنصر من عناصر تحديد الهويّة؟ |
لنأخذ مثلًا من الحياة اليوميّة: ما هي هويّة شابّة في السنة الجامعيّة الأولى؟ هويّتها محكومة بجملة عوامل لا تزال هذه الفتاة غير قادرة على التحكّم بها: الانتماءان الطائفيّ والمذهبيّ، فأن تكون مسيحيّة أمر مختلف تمامًا عن أن تكون مسلمة أو درزيّة، وأن تكون مارونيّة أمر آخر يغيّر من طبيعة تفكيرها فيجعلها مختلفة عن كونها أرثوذكسيّة أو كاثوليكيّة أو إنجيليّة، ثمّ هناك مكان الإقامة، فأن تكون مسيحيّة مارونيّة من الأشرفيّة يختلف عن أن تكون من دير الأحمر، وأن تكون خرّيجة مدرسة رسميّة لا يشبه في شيء أن تكون تلميذة راهبات فرنسيّات أو تلميذة مدرسة علمانيّة أو أنغلوفونيّة. ثمّ يأتي دور الجامعة والعمل والسفر والهوايات (موسيقى، رياضة، مطالعة، سينما، مطاعم ونواد ليليّة، سفر، فايسبوك...)، وكذلك هناك عامل الصديق الحبيب وإلى أيّ تيّار سياسيّ ينتمي، فكم من فتاة غيّرت ميولها الحزبيّة حين خرجت من تحت تأثير الوالد "العونيّ" مثلًا إلى التأثّر بحماسة الحبيب "القوّاتي"، أو العكس.
إنّ مجمل هذه العوامل وكثير غيرها (كالوضعين الماديّ والاجتماعيّ في الدرجة الأولى) ممّا لا يمكن لمقالة مختصرة أن تفيه حقّه يجعل هويّة هذه الشابّة أمرًا خاصًّا بها دون سواها؛ وأيّ انسجام أو تعايش (بحسب القاموس اللبنانيّ) أو تناغم أو تآلف أو تكامل بين هذه الهويّة وسواها عملٌ دقيق وصعب يحتاج إلى رغبة وإرادة يتبعهما تمرّس ومران، ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلّا في دولة المؤسّسات المدنيّة، ومن غير ذلك يبقى مجتمعنا مجموعة هويّات هائمة تتصادم ولا تتصادق وتتجاور ولا تتحاور. والمفارقة الكبرى أنّنا مقتنعون بأنّنا ما زلنا حرصاء على العادات والتقاليد مقارنة بدول الغرب، وأنّنا نولي العلاقات العائليّة والمناسبات الدينيّة والقيم الأخلاقيّة اهتمامًا خاصًّا، متجاهلين أنّ حرصنا هذا أساء إلى الوطن، ولم يحمِ عائلاتنا من التفكّك، وطوائفنا من التقاتل، وقيمنا من الاضمحلال، فخسرنا كلّ شيء. أو نكاد.
إنّ الهويّات قيد الدرس ليست من نصيب فئة محدّدة من المواطنين. فكلّنا نحمل هويّات قيد الدرس، نكتب عليها بقلم الرصاص، والممحاة في الجيب، أنّنا لبنانيّون حتّى إشعار آخر، عربٌ حتّى تصدر نتائج فحوص الحمض النوويّ، طائفيّون حتّى نجد سببًا آخر للتناحر، علمانيّون حتّى تأتي مواعيد الاستحقاقات من ولادة وزواج وانتخابات وموت وإرث، أغنياء إلى أن يحين موعد توزيع الإعاشات والمساعدات، فقراء إلى أن نربح اللوتو، مغبونون إلى أن يزداد عددنا، محبطون إلى أن نستقلّ في محميّة، وقد يكون الثابت الوحيد بين هذه المتحوّلات أنّنا أغبياء في حقّ أنفسنا حتّى إثبات العكس.
***
صحيفة النهار – 7 أيلول 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق