تمثال المغترب اللبنانيّ في بيروت |
الكلام الوطنيّ جميل، يحرّك المشاعر ويثير
النخوة ويبلّل العيون بدموع الفرح والعنفوان، ولكن تبيّن بالبراهين القاطعة أنّه
لا يطعم خبزًا، وإذا كان الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، فلن يحيا بيولوجيًّا، ووفق
تأكيد خبيرات التغذية الجميلات، بالأناشيد الوطنيّة والخطب الرنّانة والشعارات
المتوارثة من مجلس بلديّ إلى آخر.ولذلك كيف نجرؤ، نحن المقيمين في لبنان بحكم
الأمر الواقع لا بدافع وطنيّ، على أن نطالب كلّ مغترب ناجح برفع اسم لبنان عاليًا
وبأن يقول في كلّ مناسبة إنّه لبنانيّ وتحديدًا من القرية الفلانيّة، وإنّه يحبّ
الكبّة النيّة والتبّولة؟
فهذا الذي نجح في الخارج وتفوّق وتنافست المؤسّسات على
التعاقد معه ماذا أفاد من لبنان في مسيرته هذه وكيف كان لهذا البلد الجميل دور في
إبداعه وشهرته وتفوّقه؟ فلو كان هذا المتفوّق رسّامًا، استوحى لوحاته من الطبيعة
اللبنانيّة لقلنا إنّ جمال المشاهد اللبنانيّة كان السبب في شهرته، ولكن لا طبيعة
لبنان بقيت جميلة ولا المتفوّق المطلوب منه رفع اسم لبنان عاليًا من الفنّانين
لأنّ لبنان الرسميّ والشعبيّ لا يعنيه أمر الفنّانين والأدباء. أمّا إذا كان هذا
المتفوّق من العلماء في الطبّ والهندسة والاقتصاد فلا أعرف كيف كان للبنان الفضل
عليه، حتّى يذكّره القيّمون على هذا البلد العظيم بأن لا ينسى رفع اسم وطنه
عاليًّا. فلا المال من لبنان، ولا الشهادة العلميّة ولا المختبرات ولا العمل ولا
التكريم ولا المكافأة ولا الراتب، فكيف يكون هذا الإبداع لبنانيًّا إذًا؟ إلاّ إذا
كان القصد أن نبشّر بعقيدة تعلّمها مدارسنا لتلاميذها كي يستلذّوا بالألم، وهي إنّ
الإبداع ابن المعاناة.
ولنفرض أنّ هذا اللبنانيّ صدّق أنّه مدين للبنان بنجاحه،
ربّما مناقيش الزعتر التي تفتح الذهن هي السبب، وقرّر بالتالي أن يعود إلى لبنان،
مسقط رأسه ومكسره كما سنرى لاحقًا، ووضع علمه في تصرّف الدولة، فكيف سيكون عليه
واقع الحال، وبماذا سيواجه؟
أولاً، ستضع له الدولة الشروط التعجيزيّة والعراقيل، وستطلب
مقابل كلّ عالِم مسيحيّ عالمًا مسلمًا أو العكس احترامًا لجناحَي البلد اللذين لا
يحلّق لبنان من دونهما، كأنّ طائر الفينيق يعرف أنّ لجناحيه طائفة (أليس الطاووس
بألوانه المتعدّدة أكثر تعبيرًا عن تنوّعنا؟).
وثانيًا: سيحوّل على مجالس ولجان تدرس آراءه العلميّة
وتفنّدها، علمًا أن لا أحد في اللجنة أو في المجلس يفهم كلمة واحدة ممّا يعرض
أمامه.
وثالثًا: ستعرض عليه صفقات من داخل الدولة، وستفرض عليه
شروط ماديّة من رجالات الدولة، وسيكون له شركاء رغم أنفه وعلمه، وأوّلهم زعيم
منطقته أو أحد أتباعه أو أفراد عائلته الذين لن يرضوا بأن يكون بينهم من يفهم أكثر
منهم إلاّ إذا دفع ثمن ذلك من كرامته وعلمه وماله.
ورابعًا: سيقع هذا العالِم المهذّب المتعلّم المثقّف الذكيّ
الرصين الجادّ النظيف ضحيّة صراعات البلد الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة،
وسيتدخّل في قضيّته كلّ من يظنّ نفسه صاحب شأن ومركز من أصغر موظّف يحمل ختمًا إلى
مختار الضيعة إلى رئيس البلديّة إلى نائب المنطقة، ما يجعله يطاطئ الرأس خجلاً
ويحزم حقائب الرحيل ليعود إلى قواعده سالمًا غانمًا خلاصه، وهو يقاوم رغبة طفوليّة
تغريه بأن يحمل معه حفنة من تراب الوطن الأغلى من الذهب ويمتنع كي لا يوقفوه على
المطار بتهمة التهريب.
فيا مهاجرين ارجعوا إلى البلدان التي استقبلتكم يوم هربتم
من الجوع والفقر والموت والجهل والعصبيّة والفساد والذلّ، وفتحت لكم بيوتًا وقدّمت
لكم شهادات علميّة وأعمالاً ووظائف وتبنّت أولادكم وداوتْ أمراضكم بعدما تنكّرت
لكم حكومات بلدكم وأقفلت سفاراته في العالم الأبوابَ في وجه انتسابكم إليه. ارجعوا
إلى حيث كنتم وليبق لبنان واللبنانيّون في قلوبكم أكثر طهرًا وشجاعة ومعرفة
وإيمانًا ممّا هم عليه في الواقع.
هناك 5 تعليقات:
كتابتُك مرآةٌ لآلامنا ولأوجاع مجتمعنا
وهل تعرف كتابة يا صديقي لا تنبع من ألم؟؟
تحيّاتي
kilik zouk
إيه يا صديقتي
أنتِ الأشدُّ التصاقًا
والأرقُّ شفافيةً
والأعمقُ صدقًا...
وغالبُ ما أقرأُ في العموم
يصطنعُ الألم ويواربُ في النهج
حيثُ أنتِ لا تقاربين هذه المفردة...
المباشر الصادق، كلامُكِ ...
لك بهجةُ عيد السيّدةالعذراء -
سلامي لكِ
من صلب الواقع المرير للاسف
إرسال تعليق