الخوف على المسيحيّين المشرقيّين لم يكن مزحة في يوم من الأيّام. وحين نشرت كتابي
"الموارنة مرّوا من هنا - بألم ماري القصيفي"(2008)، كنت أعرف أنّ الخطايا
التي ترتكب في الطائفة المراهَن عليها ستكون يومًا خطأ قاتلًا في حقّ المذاهب المسيحيّة الأخرى وغير المسيحيّة. ولعلّ خطيئة المارونيّ الأولى والكبرى والخطيرة
أنّه لم يجرؤ يومًا على العشق، العشق البشريّ، بلا قيود أو موانع أو شروط أو مخاوف
أو محاذير... العشق الطبيعيّ المجنون الذي لا يقتل الجسد ولا يحرم النفس ولا يكبت
المشاعر ولا يغسل الدماغ ولا يخجل من النظر في وجه الله.
أنا لا أعرف شاعرًا واحدًا مسيحيًّا لبنانيًّا يمكن القول أنّه عشق بصدق وجرأة
وشجاعة! هل تعرفون؟ اذكروا لي اسم واحد منهم أحبّ فعلًا وترك كلّ شيء ليلبّي نداء
القلب! جبران النسونجيّ وحبيب لبنان؟ سعيد عقل أسير أمّه والعذراء مريم؟ الياس أبو
شبكة التائه بين غلوائه وحبيبته؟ أنسي الحاج عاشق فيروز ونفسه؟ صلاح لبكي؟ فؤاد
سليمان؟ ميشال طراد؟ عاصي الرحباني؟ يوسف الخال؟ أمين نخلة؟ جوزف حرب؟ مَن منهم تحرّر من
صلبه على خشبة المسيح ولبنان ليقول نعم لامرأة واحدة وجد فيها المسيح ولبنان؟ أنا
لا أعرف اسمًا واحدًا في هذا الوطن، فهل أجزم وأقول ولا في المشرق العربيّ كلّه؟
بين الخوف على المصير، والتأثّر بالتيّارات الأدبيّة الأجنبيّة، تلقّط الشاعر
المسيحيّ بروحانيّة المسيح وجسد الوطن، فضاعت المرأة من يده وتاه هو. لتبقى
القصيدة شاهدة على التشظّي والتشرذم والتفتّت بحثًا عن فردوس مفقود كان يمكن أن
يكون بسهولة حضن امرأة، امرأة هي مزيج من العذراء والمجدليّة، لا واحدتهما على
حساب الأخرى. ومن لا يجرؤ على عيش حبّ كهذا كيف له أن يكون مثقّفًا ثائرًا منتفضًا
مقاومًا مغيّرًا؟ بل كيف يمكن أن يكون متصالحًا مع نفسه ومع العالم؟ بل كيف يمكن أن
يكون نصّه أكثر من مجرّد استظهار يدرسها التلامذة أو قصيدة يشيد بها الدارسون، أو
مدرسة في السبك والبلاغة والبيان يقلّدها الآخرون، أو تيّارًا شعريًّا يؤسّس
لمرحلة في الأدب لا في الحياة؟
قد يقول أحدكم ولكن عند غير المسيحيّين قد يصحّ الأمر نفسه! ربّما، لكن لأسباب
أخرى تتعلّق بالحريّة والانفتاح والتفلّت من الرقيب، ولأنّ غير المسيحيّ لم يشبّه
نفسه بمسيح مصلوب ولم يطلب من المرأة أن تكون عذراء تشبه أمّه التي تشبه بدورها
العذراء.
واليوم، في مواجهة داعش، التي وللغرابة لا تقتل المسيحيّين بل تبعدهم في عمليّة
مكشوفة للفرز الطائفيّ وتقسيم المنطقة، اليوم، لا يجد الشعراء
"المسيحيّون"، وإن كانوا ملحدين أو علمانيّين، سوى الدعوة إلى الجنس
والعريّ والإلحاد، من دون أن يكتبوا نصًّا واحدًا يحرّك المجتمع ويقوده نحو خلاص
ما. الشعر هو القائد، ولا قيادة من دون شغف أو جرأة أو تفلّت من قيود الفكر لا
ملابس الجسد، وإن كان الزيّ مؤشّرًا لنوع من التفكير.
الشاعر المسيحيّ لم يرد أن يعشق سوى مريم العذراء لكنْ عينه كانت دائمًا على
المجدليّة فبقي واقفًا عند باب القبر، مشاهدًا لا شاهدًا. ولم يرغب في التشبّه
إلّا بالمسيح، لكنّه لم يحمل صليبًا ويتبعه إلى كهوف النسك والتبتّل فبقي قابعًا
أمام مغارة الميلاد خروفًا لا راعيًا.
اليومَ، في عصر داعش والخليفة وقطع الرؤوس، لا زعيم مسيحيًّا - دينيًّا أو
سياسيًّا أو عسكريًّا - يمكنه أن يطمئن المسيحيّين الذين التصقت بهم صفة الأقليّات
وما كانوها يومًا. اليومَ لا شاعرَ يعشق امرأةً ويقول لها: إنت لستِ أمّي، ولستِ
مريمي، ولستِ بلادي، لكن أنت امرأتي التي من أجلها تصالحت مع أمّي، وبسببها عرفت
من هي مريم، وفي جسدها صار لي وطنٌ وبيت. اليومَ، لا أمل أمام الفتيات المسيحيّات
سوى أن يزينّ أصابعهنّ، على مثال جدّتهنّ أليسار، بخواتم مرصّعة بحبيبات السمّ،
ينتحرن بتناولها للخلاص من حياة لا شعراء فيها ولا رجال.