زميلي
وصديقي باتريك رزق الله،
أعرف
جيّدًا أنّك لن تكون راضيًا عمّا سوف تقرأه في متن هذه الرسالة. لكنّك تعرف كذلك
أنّني لا أطيق الصمت ولا أحتمل السكوت... ولو كنت كذلك، لكان السكوت فعلًا... من
ذَهب.
لم أكتب
إليك البارحة مساء (في يوم اللغة العربيّة) بعد اللقاء الناجح والواعد في
الأونيسكو. فكّرت في أن أترك بعض الوقت بين الحدث والتعليق عليه، لعلّ رؤيتي تصير
أوضح، وكلامي أكثر هدوءًا، بحكم البعد عن الانفعال وليدِ اللحظة.
ولكن يا
صديقي النهضويّ الشاب، لا بدّ من بضع كلمات تفيك حقّك، وتساهم في جعل الأيّام
كلّها للغة العربيّة، كي لا يقال: يوم لها ويوم عليها.
لقد
أحييت فيّ ثقةً بأنّ النهضة في خلايانا وتجري في دمائنا. ومهما تنكّرنا لها وجحدنا
بفضلها ستبقى أمّنا، وسنبقى أبناء النهضة في الفكر واللغة والثقافة والعِلم والفنّ
والأدب والفلسفة... فأن تُقدم، وأنت في مقتبل العمر، على تأسيس موقع إلكترونيّ
رائد وفريد لتعليم اللغة العربيّة عبر الإنترنت (موقع تواصل أون لاين)، وأن تطلق
تجمّعًا هو الأوّل من نوعه للغة العربيّة النهضويّة ، عملان جبّاران ثوريّان
يعيدان للثورة مفهومها البنّاء. وهذا يعني أنّ الأمل كبير والمستقبل واعد والخميرة
الجيّدة تفعل فعلها. فأبناء جيلك الخارجون من رحم الحرب لم يقطعوا الصلة بالعنف
والحقد، فغرقوا في اليأس، وتعلّقوا بوهم المخدّرات أو السلطة أو الإثراء غير
المشروع، أو هاجروا وقلبوا صفحة الوطن ولغته... أمّا أنت فاخترت النصيب الصالح،
اخترت الكلمة! وكيف لا تفعل وأنت ابنها ورسولها ومعلّمها؟
فألف
ألف تحيّة لحماستك الوهّاجة وفكرك المتوقّد، ودمتَ في شقّ طريق النهضة بين الحواجز
والمتاريس.
ومع
ذلك، أسمح لنفسي، وبحكم الصداقة والزمالة، بأن أعرض أمامك مجموعة أفكار وُلدت ونمت
خلال "المؤتمر اللبنانيّ الدائم للغة العربيّة وآدابها"، وجرى فيه إطلاق
أوّل تجمّع لمعلّمي اللغة العربيّة في لبنان:
1- صورة معلّم اللغة العربيّة (شكلًا ومضمونًا):
طلبت
مني في المؤتمر أن أجلس في الصفوف الأماميّة، فاعتذرت. لا تواضعًا (لا سمح الله)،
لكن عادة الجلوس في الصفوف الخلفيّة لازمتني مذ بدأت الكتابة باسم مستعار (مي م
الريحاني)، فمن هناك يمكن الراغبَ أن يرصد حركة الجمهور وإيقاعه واهتماماته، فضلًا
عن الإحاطة بالمشهد العام لما يجري على المنصّة أو خشبة المسرح. ومن هناك، من
الصفّ الأخير في صالة المؤتمر، استطعت أن أراقب كيف تبدو صورة معلّم اللغة
العربيّة: لا ترتيب ولا أناقة ولا حداثة، وثرثرة وانصراف إلى الدردشة على الهواتف "الذكيّة"،
لا أدري أين ذكاء حامليها؟
صحيح
أنّ موعد المؤتمر تزامن مع نهاية نهار عمل متعب، لكن إذا كان المعلّم (ة) كان على
هذا الشكل والأداء في صفّه فلن نستغرب أن تمجّ النفوس تذوّق العربيّة، وأن ترغب
عنها العقول الفتيّة. لا أقصد هنا الطابع الإسلاميّ الملتزم المتبدّي في الحجاب،
وإن كان لافتًا، لكنّي أشير إلى انقسام جمهور الحاضرين: فرجال متقدّمون في السنّ
بملابس أكل الدهر عليها وشرب (وهم طبعًا معلّمو الكبار)، أو صبايا بأحمر شفاه قانٍ
وزينة وجه فجّة مع "علكة" كبيرة الحجم، وخلويّ لا يكفّ عن الثرثرة (وهنّ
طبعًا معلّمات الصغار)...
ولن
أتردّد في القول إنّ هذا الشكل النمطيّ كان الغالب والمهيمن، وأكاد أقول إنّنا لن
نقع عليه عند معلّمي اللغات الأجنبيّة ومعلّماتها، لا لنظرة متطرّفة منّي، ولست
كذلك، بل لواقعيّة المشهد.
2- المنحى الدينيّ في اختيار المؤسّسات التربويّة:
طغى على
المؤتمر طابع دينيّ تمثّل في اختيار المدارس على الشكل التالي: الأمانة العامّة لمؤسّسة
العرفان التوحيديّة (الدروز)، الأمانة العامّة
للمدارس الإنجيليّة، الشبكة المدرسيّة لصيدا
والجوار (ذات الطابع السنيّ)، مؤسّسات أملّ
التربويّة (شيعة)، الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة. وشكرت الله أنّ المذاهب الأخرى لم تكن
حاضرة وإلّا لصار المؤتمر الأوّل أخيرًا...
ولعلّ فصل الدين عن اللغة حاجّة ماسّة، يجب
على هذا التجمّع أن يسعى إليها، كي لا نربط اللغة بتطرّف دينيّ هنا، أو شرذمة
طائفيّة هناك... فاللغة العربيّة التي أعرفها تستوعب الجميع ولا تخضع لأحد.
3- الكلمات التي ألقيت:
وفي
السياق نفسه المشار إليه في ما سبق مباشرة، لا بدّ من التوقّف عند توزّع الكلمات
الملقاة على ثلاث فئات:
أ - فئة
الأصوليّة الدينيّة واللغويّة، وقد تبدّت سماتها في البسملة والحمدلة والتأكيد على
أنّ العربيّة لغة القرآن وأهل السماء، وذلك بأسلوب معقّد يؤكّد لنا أنّ معلّمي
اللغة في واد والتلامذة في واد آخر.
ب- فئة
التحرّر والسعي إلى التحديث، وقد وقعت لغتها في التبسيط والأخطاء عند الارتجال ما
أضاع المعنى الصحيح والمطلوب. وهذا في حدّ ذاته سوء تقدير في اختيار مخاطِبين لا
يجيدون اختيار المقال المناسب للمقام.
ج- فئة
الاعتدال والتوفيق بين اللغة السليمة والمضمون المتحرّر. وهي الفئة التي تمثّل ما
تفتقده لغتنا العربيّة.
4- غياب فاضح لمعلّمي المدارس الكاثوليكيّة:
بدا
جمهور الحاضرين ممثّلًا للخطباء، كأنّ كلّ متكلّم حرص على اصطحاب جمهوره. لكنّي لم
أر سوى مجموعة صغيرة من معلّمي المدارس الكاثوليكيّة، وهذا أمر يسجّل على الأمانة
العامّة، وعلى المدارس التابعة لها والتي تتباهى بأنّها تولي اللغة الأجنبيّة
الاهتمام الكبير.
5- تهميش المعلّمين من الشعراء والروائيّين والإعلاميّين:
مع تفهّمي لرغبة الأمانات العامّة في المدارس والمؤسّسات التربويّة في أن تتمثّل برؤسائها أو رجال الدين فيها، خصوصًا في المؤتمر التأسيسيّ الأوّل، لكن سيكون من الرائع لاحقًا أن تفتخر المدارس لاحقًا بمعلّميها ومعلّماتها من الشعراء والروائيّين والعاملين في الحقل الإعلاميّ، فتبرزهم وتتباهى بهم.
***
ومع
ذلك، مع كلّ ذلك الذي ليس لك ذنب فيه ولا حيلة، نجحت يا صديقي النهضويّ، نجحت في
ضخّ مياه نظيفة في مستنقع راكد تغرق فيه لغتنا، وسيبقى لك دائمًا، ومهما واجهت من
صعوبات وتحديّات، الفضل في أنّك تفوّقت على طاولة الحوار، وجمعت ممثّلي المدارس
(ولو طائفيّة) في مؤتمر هو الخطوة الأولى في رحلة طويلة وشاقّة من صحراءَ غرق
الفكر في رمالها إلى قممٍ تحلّق فوقها الكلمة؛ وفي أنّك جمعت بين الحداثة
والأصالة، وفي أنّك، وأنت الشابّ الثائر على الظلم والعامل في حقول التربية والصحافة
والقوانين والإنترنت، تبوّأت مكانة مرموقة بين كبار يراهنون عليك كي تخلّد ذكرهم،
وتقود الأجيال الشابّة على خطاهم.
***
هناك تعليق واحد:
سيّدتي ...
ها أنا أعلم بالمؤتمر هذا من خلال كلمتك هذه. واضح أنّ الإتّجاه الذي برز في ما قد كتبتِه هو هو الإتّجاه الذي أرى نفسي سائراً فيه. ولأنّي كذلك عدت إلى أرشيف الصحف للوقوف على تفاصيل ذلك اليوم حيث أقيم المؤتمر، فتيقّنت ممّا قلته عن ديناميكيّة الأستاذ باتريك رزق الله، ولكنّي لم أستسغ الصور المنشورة في مدوّنتكِ عن المؤتمر. فهو يستحق صوراً لغير وجوه. الكلّ أجمع إلى أنّ اللغة العربية اليوم ليست على ما يرام. والكلّ حاول أن يشخّص الداء ولكن لم يكن هناك من حبّة دواء واحدة. قد لا يكون الهدف من المؤتمر إيجاد الدواء، ولكنّ إستعمال اللغة العربيّة لمناظرات محض شعريّة لم يعد ينفع في شيء.
لن أدخل بالطبع في كيفيّة تعليم اللغة للتلاميذ، كباراً كانوا أم صغاراً، فالأمر ليس من اختصاصي. ولكنّي أودّ، لو تسمحين، أن أضيء على نقطتين:
الأولى، أنّ مؤتمراً للغة العربية لا يفيه حقّه إلاّ مختصّي اللغة، وفقهائها، والعاملين معها وفيها وعليها، وقد غابوا عنه.
الثانية، إن اللغة يجب أن تعبّر بأكمل صورة ممكنة عن الفكر، وعليه قد يكون من الضروري، ونحن في عصر العولمة، أن نضعها على المشرحة للبحث فيما يمكن أن يطوّر في قواعدها. هذا الأمر حصل مرّة واحدة وعن غير قصد زمن النهضة، ثمّ توقّف.
كلمة بعد، قد تكون كلمة الأب شربل باتور، ألكلمة الأهم في المؤتمر والتي عليها يمكن بناء شيء ما. هذا رأيي الحرّ على أيّ حال بالرغم من ضعف الوجود "الكاثوليكي" فيه كما اشرتِ.
مرّة بعد، أرى نفسي أسير في الإتّجاه الذي عنه كتبتِ في مدوّنتك، وأشير بصدق إلى أهمّية ملاحظاتك، ملاحظات "أم الصبي" ...
إرسال تعليق