السبت، 20 يونيو 2015

أحببتك على عللك لعلّك تبرأ منها (2009)




الحبّ لا يوجد إلاّ حيث العلل، وإلاّ فما الحاجة إليه؟

الحبّ يسعى إلى الكمال، لا بل إلى الاكتمال بالآخر، وإلاّ فما الحاجة إليه؟

ولو كان الواحد منّا بلا علّة لما احتاج إلى الآخر، وهل من إنسان بلاّ علّة؟ أليس قول المسيح عن أنّ ما من أحد بلا خطيئة هو من باب التأكيد على أنّنا نحمل هذه العلّة على الأقلّ؟

الجسم البشريّ لولا الحبّ لكان مجموعة من القاذورات والأمراض والميكروبات والأنسجة العرضة للاهتراء، والأعضاء التي تنتظر التلف كلّ لحظة بعدما كانت تتجدّد كلّ لحظة، والخلايا التي تحمل عناصر حياتها وموتها في الوقت نفسه. ولكن في لحظة الحبّ يحاط الجسم البشريّ هذا، المملوء بكلّ ما يمكن أن يثير اشمئزاز الآخر، بهالة من النور والسموّ ويتحوّل كلّ ما يخرج من الجسم عسلاً وطيباً وبخوراً. ولولا الحبّ لما حصلت هذه المعجزة.

غير أنّ في الجسم عللاً أخرى، منها ما هو طارئ لا سلطة للإنسان عليه ومنها ما هو كامن ينتظر لحظة الاعتراف به. والحبّ يغفر ما لا سلطة لأحد عليه، فهل يعتب العاشق على حبيبه إن مرض، أو شاخ، أو أعيق، أو عجز؟ قد يصبّ غضبه على المرض والشيخوخة والإعاقة والعجز، وعلى الحياة التي سمحت بكلّ ذلك ولكن ليس على الحبيب.

ولكنّ العلل الكامنة المختبئة خلف ستائر الكذب والخداع هي ما يخيف وبالتالي لا يكون الحبّ حبّاً إن كان ثمّة علّة نرفض الاعتراف بوجودها أو طلب المساعدة لمعالجتها. لربّما كان الخوف هو ما يمنع أحدنا من الاعتراف بعلله، الخوف من النبذ والهجر والوحدة بعدما ذقنا الرضا والوفاق والحبّ. وهذا الخوف هو ما يدفعنا لنظهر في صورة الكمال التي لا عيب فيها ولا دنس ولا علّة، فنحاول أن نشبه الصورة التي وضعناها لأنفسنا عن أنفسنا، ونعمل على تسويقها وإقناع الآخرين بصدقها وأصالتها ونحن نخشى كلّ لحظة أن يكتشف خبير بارع الزيف والتزوير والخداع. ساهمت في ترسيخ ذلك في أذهاننا صورة الإنسان الكامل التي بشّر بها بعض الفلاسفة والتقطتها وسائل الإعلام حين راحت تدعو إلى كمال الأجسام وجمالها. فنحن حين صرنا أسرى الصورة الكاملة الأوصاف لم نعد نريد أن نعترف بعللنا الظاهرة منها والمخفيّة، ولذلك أمعنّا في الهرب من الحقيقة لمصلحة الخداع وبالتالي الخيبة.

هل نستطيع أن نحبّ المختلس والسارق والمعتدي والمغتصب والقاتل والمجرم؟

لا شكّ في أنّنا نكره الاختلاس والسرقة والاعتداء والاغتصاب والقتل والإجرام، وقد نقع في حبّ أحد الذين التصقت بهم هذه الصفات ونحن مقتنعون بأنّنا مخلّصوهم، ولكن هذا أمر يحتاج إلى كثير من السمو والوعي والترفّع كي لا يصير حبّنا لهم تواطؤاً وتآمراً واشتراكاً في ما هم فيه غارقون. فأن تحبّ صاحب العلّة التي من هذا النوع يعني أنك قادر على أن تمدّ يدك لتخرجه من عتمة علّته إلى حيث الضوء والحبّ والنور. أمّا إن كانت علّته ستجرّك معه إلى هاوية بؤسه وغضبه وحقده فهذا ما لا يجوز لك أن تفعله بنفسك لأنّك مسؤول عن هذه النفس، عاشق لها، صديقها، ولا يجوز لك أن تعرّضها لهلاك ليس له مبرّر.
Miro


لعلّنا مدعوون إلى القبول بأننا لسنا آلهة بعدما كان لبعض الديانات والفلسفات دور في دفعنا إلى طلب التساوي مع آلهتنا في كلّ شيء، وكانت مأساة كلّ منّا أن عوقب باكتشاف هشاشته كلّ مرّة خيّل إليه فيها أنّه اقترب من تحقيق ألوهته. ولهذا حلا للإنسانيّة أن تقلب الأدوار وتتخيّل أهل السماء وهم راغبون في ارتداء أجسام البشر واختبار مشاعرهم وآلامهم، فجاءت أعمال كثير من المبدعين – في الرواية والفنّ التشكيليّ والسينما – لتظهر الآلهة التي تغار من الإنسان أو تعشقه وهي التي تعلم نقاط ضعفه، أو الملائكة التي تتخلّى عن خلودها من أجل قبلة حبّ، أو الرجال الآليين الذين تمنّوا أن يشعروا بما يشعر به البشر.
***

- قالت المرأة للمرآة: أحببته على علله لعلّه يبرأ منها، غير أنّه أحبّ علله أكثر من أيّ شيء آخر.

* النهار - الثلاثاء 1 كانون الأوّل 2009

هناك 6 تعليقات:

ياسين السويحة | Yassin Swehat يقول...

عندما نحبّ نرى علل المحبوب كتفاصيلٍ صغيرة نحبها فيه... إنها كصغر الشقة أمام البناء الحكومي, إيهما أكثر حميمية لنا؟


خاطرة جميلة جداً :)

ماري القصيفي يقول...

الوقائع تثبت أنّ الحبيبين في الشقة الصغيرة يمارسان الحبّ وأعينهما على المبنى الحكوميّ

غير معرف يقول...

Caroline Kanaan

طلبت منه أن يحبني على عللي كما انا أحببته على علله...
فأجابني: "أحبك كما أنت... علتك الوحيدة أنك تحبيني"

ماري القصيفي يقول...

كارولين أشكرك على مرورك على مدوّنتي. صحيح العلّة الوحيدة أنّنا نحبّ
ولكنّ البراعة هي في تحويل العلّة علاجًا

جمال السيد يقول...

ـ"ولكنّ البراعة هي في تحويل العلّة علاجًا"
يا سلام.

هكذا تحدث الشاعر يقول...

دعوة إلى الحب .. ومن الحب ماقتل .. وفى الحب شفاء

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.