بين
رفض مرسيل خليفة عزف النشيد الوطنيّ في افتتاح مهرجانات بعلبك، وتهجّم باتريك
مبارك على رئيس الجمهورية والأمين العامّ لحزب الله والدين الإسلامي، بدا لبنان
وحيدًا يتيمًا لا يجد من يدافع عنه.
عبّر
اللبنانيّون جميعهم، في الصحف وووسائل التواصل الاجتماعيّ عن آرائهم في هاتين
المسألتين: دافعوا عن موقف مرسيل، اعتبروا النشيد مسروقًا ولا قيمة فنيّة له، هاجموا
الرجل واتّهموه بالخيانة، اعتبروا باتريك مريضًا نفسيًّا، قالوا إنّ الحقّ على
الصحافيّة مسرّبة الحديث، دافعوا عن رئيس الجمهوريّة والأمين العامّ والإسلام،
استعادوا الحرب، خوّفوا من الانزلاق إلى ما يوتّر السلم الإهليّ.... أمّا لبنان، لبنان
الوطن، فلم يجد من يفكّر فيه أو يخاف عليه.
لبنان
ومنذ فجر تاريخه المعروف يقف تائهًا على شاطئ الغروب. كلّ الذين ماتوا من أجله لم
يموتوا من أجله: بل من أجل بقاء طائفة وتحصيل حقوق أخرى، من أجل الحزب، من أجل
الزعيم، من أجل المال، من أجل منصب عامّ، من أجل فلسطين، من أجل سوريا، من أجل
الطعام، ولكن ليس من أجل لبنان، لأنّ لبنان لا يزال فكرة لم تتجسّد في وطن حقيقيّ
متّفق عليه، بل مختلف على تاريخه الذي ليس له كتاب موحّد، على جغرافيته في البرّ
والبحر، على نظامه، على نشيده، على علمه، على لغته، على دينه أو علمانيّته، على
دوره ورسالته،... وحين تكون كميّة الاختلافات كبيرة إلى هذا الحدّ، ماذا يبقى من
وطن صيّروه بلدًا بليدًا؟
حين
دافع بعضهم عن النشيد الوطنيّ، لم يكن الهدف النشيد الذي أجزم أنّهم لا يعرفون
كلماته، إنّما مهاجمة الشخص اليساريّ الذي اسمه مرسيل خليفة والذي لم يلتحف
مرّة بالعلم اللبنانيّ بل بالكوفية الفلسطينيّة أو الوشاح الأحمر الشيوعيّ،
فاعتبروه خائنًا وكادوا يعتبرونه المتسبّب في الحروب اللبنانيّة كلّها، وفي
الحالين غاب تقييم العمل الفنيّ تقييمًا شفّافًا علميًّا مفيدًا. في حين كان رأيي
ولا يزال أنّ مرسيل ارتكب خطأ لا خطيئة (موضوع طرحته بإسهاب على حسابي
الفيسبوكيّ).
والذين
هاجموا باتريك مبارك لم يفعلوا ذلك دفاعًا عن لبنان أو خوفًا عليه، بل دفاعًا عن شخصين
ودين، أو خوفًا منهما. ولم يسأل كثر عن حالة
الرجل والسبب الذي دفعه إلى الإعلان بصوت عالٍ عن أفكار تجول في عقول كثيرين سواه
ولم تجد ميكروفونًا ينقلها (كما حدث مع بشارة الأسمر) أو صحافيّة تسرّبها.
وبالتالي،
يبدو لبنان في جميع الحالات خارج إطار المعادلة، وإن ورد اسمه ملايين المرات في
التصاريح والبوستات والتعليقات والمقالات والكتب والقصائد والأناشيد. فالخوف إذًا
ليس على النشيد أو العلم، ولا على رئيس الجمهوريّة ولا على السيّد نصرالله، وعلى
أي زعيم ممنوع الإشارة إليه بالاسم أو التلميح، بل على وطن متروك عند أوّل تأشيرة
سفر، وقابلٍ التوطين لمن فقدوا وطنهم، و"منزوحٍ" إليه قد يزاح عن
الخريطة، أو يبقى في أحسن الأحوال صورة مستنسخة على آلة نسخ جفّ حبرها.
ولكن
في كلّ هذه المعمعة من الدفاع والهجوم على عاملَين في الشأن الفنيّ، على اختلاف
شهرتيهما ومكانتيهما، لا يبدو الفنّ بخير ولا النقد، ومن الواضح أن ليس مرسيل وهو
المطمئنّ ماديًّا واغترابيًّا وحيدًا في رفضه هذا اللبنان، وليس باتريك وحده من
يرضخ لتأثير الفقر والحاجة وأدوية الأعصاب... أليست هذه حال البلد كلّه؟
وأمام
شكوك تطاول الأديان، وفوضى تعمّ الجسم الفنيّ، وانهيار المؤسّسات التربويّة،
ومخاوف تهدّد الجسمين العسكريّ والقضائيّ، ينتظر لبنان موتًا رحيمًا تمنحه إيّاه
رصاصة طائشة في مهرجان الامتحانات الرسميّة المشكوك دومًا في مستواها وقيمة
شهاداتها، ولن يجد من يحميه أو يدافع عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق