السبت، 24 نوفمبر 2018

نبيل خوري "الرّقم الصّغير" المدينة قبل أن تكون المتهدّمة (1995)



نبيل خوري "الرّقم الصّغير"
المدينة قبل أن تكون المتهدّمة
معه حقّ، نبيل خوري، في قوله عن روايته "الرّقم الصّغير" (1) أنّها بقيت، بعد أكثر من ثلاثين سنة على كتابتها، "شاهدًا على فترة معيّنة من حياة بيروت، وشاهدًا على أسلوب نسيت كيف أكتبه" (ص 7).
والرّواية هذه، الصّادرة عن "دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر"، كتبت في مطلع السّتّينات، ونشرت في مجلّة "الحسناء" وتنشر اليوم لأنّها "شاهد حيّ على أحداث وقضايا وهموم لتلك الفترة"، تقول دار النّشر.
ماذا في الرّواية؟
هي رواية اجتماعيّة تختصر الصّراعات آنذاك بنوعين: صراع القرية والمدينة والصّراع من أجل الحرّيّة. وهما مترابطان لأنّ البحث عن الحرّيّة يبدأ أوّلًا بالنّزوح عن القرية إلى المدينة. وهناك محاولات إثبات الوجود، وإن كانت النّتيجة الّتي تصل إليها الرّواية إنّ الإنسان في بيروت يتحوّل إلى "رقم صغير" تافه وضائع بين الأرقام الصّغيرة مثله.
يكاد الصّراع بين المدينة والقرية يكون العنوان الأساسي لكثير من كتابات تلك المرحلة، وتكاد أسباب النّزوح إلى المدينة ـ عدا الدّراسة والعمل ـ تختصر في ثلاثة: البحث عن حرّيّة الحبّ والجنس، والخروج من دائرة سياسة المختار والنّاطور إلى السّياسة الأوسع معنى والأكثر اتصالًا بالعالم الخارجيّ، وثالثًا، الخروج من الدّائرة الدّينيّة ذات اللّون الواحد إلى مجتمع المدينة حيث تتعدّد الطّوائف والمذاهب، وتتغيّر صورة اللّه المتوارثة.
واستمرّ الصّراع في كتابات أخرى، وأعني بها تلك الّتي تتعامل مع بيروت فقط، إذ لبست بيروت القديمة صورة القرية حيث الجميع يعرف بعضهم البعض الآخر، وتصارعت مع بيروت الجديدة الّتي هي المدينة الجديدة. وهكذا أخذ الأدباء يتذكّرون بيروت القديمة/ القرية ويأسفون لطغيان بيروت الجديدة/ المدينة عليها.
وكما في أكثر هذه الكتابات فالمدينة هي مركز الحرّيّة المفسدة، وسبب الشّرور والأنانيّة والجريمة، حين إنّ القرية هي مركز الصّفاء والطّهر والنّقاء، فيها كلّ الخير وكلّ السّلام وكلّ المحبّة. ولكن هذه النّتيجة لا تصل إليها الشّخصيّات القصصيّة إلّا من تجربة مريرة في بيروت/ المدينة، يعودون بعدها إلى القرية (أو إلى ذواتهم) عودة الابن الضّال، اكتشف خطأه.
وإذا كان توفيق عوّاد في قصّة من مجموعته "الصّبيّ الأعرج" وعنوانها "المقبرة"، يصوّر القرية أنّها مصدر الشّرّ إذ تهرب الفتاة الّتي اعتدى عليها المختار، فإنّه في "طواحين بيروت" يصوّر المدينة أنّها المكان الّذي يهرس الجميع ويذيب وجودهم.
نبيل خوري لا يبتعد عن حقيقة القرية المزدوجة، هي الملجأ يوم التّعب والاضطراب العاطفيّ أو الفكريّ، وفي المقابل تحارب الحبّ وتأسر "سعاد"، الحبيبة الأولى، في سجن التّقاليد والعادات، وتقتل "ليلى" الّتي حاولت الهرب من أسرها(ص 87). وإذا هربت ابنة القرية فلتعمل خادمة أو على الأكثر راقصة في ملهى حقير(ص 87). نعم، هذا ما تقدّمه بيروت إلى بنات القرى.
والكاتب، في إعادة نشر هذه الرّواية، يعيش حنينًا آخر، إلى بيروت السّتينات، بيروت الّتي صارت قرية الكثيرين من الجيل السّابق، الّذين، حين يعدّدون أسماء الحانات والمقاهي، ويتذكّرون الوجوه الّتي غابت، ويعملون على إعادة إحياء الأمكنة الّتي ماتت، والتّاريخ الّذي انقضى. وهذا ما كان يفعله القرويّون في بيروت، الهاربون من قرية لا يتوقّفون عن رثائها والبكاء على أطلال ذكرياتهم فيها، دون أن يرغبوا في العودة إليها عودة حقيقيّة وصادقة.
"فؤاد"، بطل الرّواية، شاب ضائع بين القرية والمدينة، وكذلك متردّد الاختيار بين "فتاة محافظة... عاشت في ظلّ التّقاليد، وفتاة حرّة... خرجت على التّقاليد". فيقول في الصّفحة 119: "هل يحتمل، وهو الّذي عاش مع نساء كلّهنّ يرزحن تحت أعباء الماضي أن يعيش مع زوجة عرفت غيره؟"
ولكن هل يستطيع أن يعيش وامرأة ساذجة. لا تفهم من الدّنيا إلّا ما تعلّمته في المدرسة. ومن محاضرات والدتها المصون... مستحيل أيضًا.
هل يتزوّج فتاة لبنانيّة؟
أو فتاة أجنبيّة؟
اللّبنانيّة لن تفهمه...
والأجنبيّة لن تقبل أن تفهمه...".
في هذه الأجواء المتناقضة، تتطوّر أحداث الرّواية لتصل في نهايتها إلى حلّ شديد الرّومنطيقيّة، شديد المثاليّة. إلى بعد الفشل في العلاقة بالمرأة الأجنبيّة. والفشل مع اللّبنانيّة الّتي حاولت أن تكون متحرّرة (بعدما لاحقتها شرطة الآداب)، وبعدما وقف على صخرة الرّوشة يفكّر بالانتحار، التقى فتاة تريد أن تلقي بنفسها في البحر. وحين اكتشف إنّها حامل ووحيدة، قرّر الزّواج بها، لأنّه اكتشف "أنّ الحياة، كلّ الحياة تختصر بكلمة واحدة هي العطاء" (ص199).
في الرّواية إذن رجل وحيد. هو المحور، وحوله مجموعة من الشّخصيّات، بعضها أنثويّ كالأمّ، وجون المرأة الأجنبيّة، وسعاد ابنة القرية، وسميرة ابنة المدينة، إلى مجموعة من بنات اللّيل الأجنبيّات، وأخيرًا، الفتاة الّتي ستكون الزّوجة، وهي بلا اسم لأنّها تمثّل حالة أكثر ممّا تمثّل شخصًا. والشّخصيّتان الذّكوريّتان هما الوالد، رجل القرية المثالي، ومايك الأجنبيّ، السّكّير الّذي يضرب زوجته جون.
كلّها شخصيّات تبحث عن دور لها في الحياة، والمجتمع يسيء إلى هذا الدّور ويعطّله. فالسّارق يعطّل عمل الوالد في الأرض، والشّرطة تمنع سميرة عن التّمتّع بالحرّيّة المعطاة لها ضمن عائلتها، والتّقاليد تمنع سعاد عن تغيير نمط حياتها وهي الأرملة الصّغيرة في السّنّ. والبطل عاجز عن تغيير مجرى الأحداث لأنّه أساسًا لا يعرف ماذا يريد حائر بين التّقاليد والتّحرير، بين الوطن والغربة، بين القرية والمدينة.
لغة الرّواية سلسة، وحبكتها القصصيّة بسيطة، ولكنّها وقعت أحيانًا في ما أسمّيه اللّامنطق القصصيّ. ومن ذلك، عدم اتّصال المستشفى بالشّرطة حين وصلت إليها جريحة أجنبيّة الجنسيّة، مطعونة في كتفها، في زمن السّتّينات، عهد الدّولة والنّظام. ومن ذلك أعطي مثلًا آخر لا أعرف هل مقصود للدّلالة على التّحوّل الّذي طرأ على شخصيّة البطل. ففي الصّفحة 63، نقرأ إنّ فؤادًا لا يعرف البكاء "وقال له الطّبيب عندما استشاره إنّ هناك خطأ، منذ ولادته، في تركيب شرايين الدّمع في عينيه. إنّه يبكي داخل عينيه لا خارجهما" (ص 63) ثمّ نقرأ "أحسّ بدمعة تترقرق من عينيه لتغرق وجهه"(ص 187).
وفي الكتاب بعض الأخطاء المطبعيّة كمثل ورود كلمة حتّى عوض عن كلمة متى "حاول أن تتذكّر أنّها انتهت... أو على الأصحّ حتّى بدأت" (ص184). وكلمة الصّدقة بدل الصّدفة (ص 132). وكثير من الأخطاء في وضع علامات الوقف من نقاط  وفواصل، وأخطاء من نوع "لولا بعضًا من حياء" (ص 32) والصّحيح لولا بعض... ، واستعمال عبارة "حظ سعيد" (ص 63) بمعنى التّمنّي.
"الرّقم الصّغير" رواية الذّكريات، رواية عن بيروت الّتي لا نعرفها، نحن أبناء المدينة المهدّمة. وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة، لا نجد إنّ هذه الرّواية شاخت، بل حافظت على مراهقة مشدودة بين العقل والعاطفة، مراهقة محبّبة لا يعيبها أنّها لم تنضج بعد.
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" السّبت 28 كانون الثّاني 1995

(1)             "الرّقم الصّغير"، نبيل خوري، "دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر" ـ الطّبعة الأولى  ـ  كانون الثّاني 1995.



ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.