يوسف سلامة على هدي أسلوبه
حين يسخر يحترم القارئ
مرّة هو ي. س. ومرّة هو ي. سلام، ومرّة هو ياسين ياسين.
وفي كلّ المرّات هو يوسف سلامة في مونولوغ حميم.
ويوسف سلامة هو نفسه إن في بيروت أو في السّويد أو في
أميركا، ساخر لاذع لا يعرف الرّحمة، ومراقب حادّ النّظرة، إقتصاديّ وأديب يجمع
منطق العلماء ولغة الأدباء. وصفه دقيق وجملته سريعة وافية لا تتركنا لاهثين
وراءها.
وفي نصوص "عود الكبريت" (1) ـ آخر ما صدر
ليوسف سلامة ـ سيجد القارئ هذه الشّخصيّات كلّها، وسيزور معها كلّ هذه الأمكنة،
وسينتقل بين نص وآخر من الدّولار وعلاقته باللّيرة اللّبنانيّة إلى بابا نويل، إلى
صيد العصافير، إلى أميركا ونظامها الاقتصاديّ الحرّ، إلى القلقشندي... وفي وسط
الكتاب تمامًا، النّصّ الّذي أعطى عنوانه للكتاب: عود الكبريت، وهما كلمتان
مأخوذتان من تلك العبارة الّتي أطلقها يوسف وهبي، في مسرحيّة "ماريوس"
عن مارسيل بانيول: "شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش إلّا مرّة
واحدة".
وفي "عود الكبريت" حديث طويل عن الأدب
الأروتيكي، ونماذج مترجمة من هذا الأدب القديم: الغزل بين أنانا ودوموزي (مقطع من
قصيدة سومريّة)، وبركة الزّنبق (أبيات باقية من قصيدة مفقودة 1580 ق. م.)، وعشاق
أخيل (مقطع من قصيدة لسوفوكليس 496 – 406 ق. م.)، ومقاطع من نشيد الإنشاد، وأموريس
(قصيدة للشّاعر الرّومانيّ أوفيد 43 ق. م. _ 17 م.). والكاماسوثرا (للنّاسك
الهنديّ مالاناغا)، ومقطع من ألف ليلة وليلة.
يقول يوسف سلامة: "تكاد مراجع الأدب الأروتيكي في
اللّغة العربيّة تكون شبه معدومة. فالرّقابة في بلادنا لا تميّز بين الأدب المبنيّ
على شهوة الحبّ وبين البورنوغرافيا والدّعارة المبنيّة على الكلام البذيء. كلّه
عند العرب صابون. كلّ كلام عن الجنس كلام مشبوه قبل سماعه، وكلّ كتاب عن الحبّ
الجسديّ كتاب ممنوع من الصّرف والنّحو قبل قراءته" (ص 68).
ويتابع: "صدر من مدّة عن إحدى دور النّشر كتاب
"الرّوض العاطر في في شذا الخاطر" للشّيخ التّونسي عمر بن محمّد
النّغزاوي الّذي عاش وكتب مخطوطه في القرن السّادس عشر".
"في الغرب اعتبر هذا الكتاب اكتشافًا مهمًّا يوم
عثر عليه في الجزائر ضابط في الجيش الفرنسيّ منتصف القرن التّاسع عشر... أمّا
عندنا فصودر الكتاب في لغّته الأصل، ومنع من الدّخول. ويروى إنّ أحد المحقّقين في
إصداره طلب من دار النّشر عنوان المؤلّف في تونس ورقم هاتفه" (لاحظوا
السّخرية اللّاذعة... ).
ويقول الكاتب: "ثمة لغط شائع في معظم دول العالم
إنّ مراجع الأدب الأروتيكي غير موجودة. وإنّها إذا ما وجدت فهي صعبة المنال، لكن
الواقع هو العكس تمامًا. فالمراجع متوافرة بغزارة في المكتبات الجامعيّة
والمؤسّسات العامّة، وموضوعة في تصرّف القارئ".
ويتابع الكاتب معدّدًا أسماء هذه المكتبات والمؤسّسات في
جولة وافية. ويذكر عددًا من أسماء الأدباء والأديبات الّذين اهتمّوا بهذا الأدب
وكتبوا فيه، لافتًا الانتباه إلى بعض الرّموز الّتي تشير إلى أسماء الأعضاء
التّناسليّة عند الرّجل والمرأة.
وينتهي هذا الفصل بترجمات عن النّصوص الإنكليزيّة
للنّصوص "الأوليّة للتّراث الأروتيكي" و"هذا التّراث عالم قائم
بذاته، إذ تحتاج دراسة نصوصه إلى المعرفة المعمّقة لأكثر من عشرين لغة. وإلى عمر
أطول من سنيّ المرء الباحث في ثنايا هذا التّراث".
ويلفت يوسف سلامة نظر القارئ إلى أنّه لا يمتهن حرفة
التّرجمة، ويقول: "وإنّي بنيت ما فهمته من النّصّ الإنكليزي في نقله إلى
العربيّة على قولين مأثورين: أوّلهما للإمام الدّينوري إذ قال: "أبلغ الكلام
ما سابق معناه لفظه" والثّاني، مثل شعبيّ شائع "جود من الموجود".
ألا يفرح القارىء حيث يجد إنّ الكاتب - وبأمانة علميّة محترمة – لا يخدعه بل
يحترمه ويثق به ؟
في الصّفحة 68 من الكتاب عبارة إنّ الأدب الأروتيكي هو
أدب الرّوح والجسد معًا. ولكن يوسف سلامه لا يحصر أدب الرّوح والجسد في الأدب
الأروتيكي فقط، فهو حين ينتقل بنا من عالم بابا نوبل (هو هو هو - ص 127) إلى
العالم الأميركي (أميركا أميركا - 133) ألا يعمل على التّأليف بين عالم الرّوح
وعالم المادّة؟ والانتقال من الحديث عن الطّيور (دع الشّحرور يغنّي – ص 39 – لا
طيور في سماء بيروت – ص 43) إلى البحث في تقلّبات سعر الدّولار (ص 107)، ألا يعني
إنّ الإنسان لا يحيا بسماع زقزقة العصافير فقط ولا تشبعه رؤيتها تطير في سماء بلاده
المستباحة؟ إنّ الكاتب حريص على ألا يغلب اتّجاهًا على آخر، بدونهما معًا كيف
ينسجم الإنسان مع الطّبيعة والوجود، وكيف يتكامل؟
النّكتة اللّاذعة لا تغيب عن صفحات الكتاب، يطعّمها
الكاتب بالكلمة العاميّة حين تدعو الحاجة، فتزداد العبارة قربًا من قارئها. تباعده
وتدعوه إلى ابتسامة سخيّة. وقد تفرقع أحيانًا في ضحكة صاخبة: "كلّ أسبوعين
تقصّ زوجتي شعر "سكوبي"، وتحمّمها بالماء الفاتر وبشامبو خاصّ بالكلاب.
في يوم ممطر، اقترحت عليها مازحًا قصّ شعري بعد الانتهاء من قصّ شعر
"سكوبي". فقبلت، وسلّمت أمري لقدري رغم إنّه لاحظ أنّها لا تعرف كيف
تتكتك بالمقصّ. مع الوقت، خاصّة في الأيّام الماطرة، تقبّلت فن زوجتي وأعجبت به.
وهي لا تزال تمارسه عليّ وعلى "سكوبي" أكثر من دزينة مرّات في كلّ سنة.
في السّنة الأولى لنكبتي المريحة سألني سامي (الحلّاق في
بيروت) عن الحلّاق الّذي قرطم شعري. قلت له إنّه حلّاق سويدي ماهر. فصحّح القرطمة
وسكت.
في السّنة الثّانية سألني عن الحمار الّذي جزّ شعري
وكدوشه فاعترفت (ص 38).
وفي مكان آخر:
"اسمه القديس نقولا. الولي نقولا. الحاج نقولا.
هوهو
بابا نويل من عندنا !
بلدي وليس شغل برّه
وهو فوق ذلك، مستقيم الرّأي متأمّل !" (ص128).
أمّا الفصل الأكثر تعبيرًا عن الواقع الثّقافيّ في
العالم العربيّ اليوم - وبيروت منه وفيه - فهو "شمس الأصيل" (ص 59).
يبدأ الكاتب بلهجة خطابيّة يدعو فيها "مخاطبه" إلى الإنصات وعدم
المقاطعة ليخبره عن وضع "الكلمة" اليوم وما آل إليه وضع أصحابها
والمعتدين عليها. ومن كلامه: "أمّا في اللّقاءات الشّعريّة فكانت أعداد الذّواقين
قليلة على رغم الإعلانات والعزومات، والصّور والتّطبيل والتّزمير المسبق. وكان
الحضور في الأمسيات الّتي تشرّفت بحضورها يتضاءل تدريجًا، خاصّة في الفسحات الّتي
كان الشّاعر يستغلّها لشرب جرعة ماء والتقاط أنفاسه بين قصيدة وأخرى وكثيرًا ما
وجد الشّاعر نفسه وحيدًا في القاعة وهو يلقي آخر قصيدة في جعبته (ص 64).
... ويقرّر الكاتب الصّمت، لكنّه لا يصمت طويلًا
"فالحيّ لا يسكت إلّا في القبر". وفتح دكّانًا جديدًا... "دكانًا
للحوار، لاعتقادي – يقول الكاتب – إنّ الحقائق، بأشكالها المختلفة لا تظهر ولا
تموت ولا تتجدّد، إلّا من خلال الحوار" (ص 65) "فإن كان عندك أفكار
معلّبة فالق بها في بحرنا الملوّث وشاركنا في الأخذ والعطاء".
هل يجد هذا المكان زبائن أو سيصيبه الإفلاس لقلّة
الرّاغبين في الحوار؟ يبدو إنّ يوسف سلامة متفائل على رغم ما يسمعه ويقرأ عنه من
تعدّ على الحرّيّات وقمع للأفكار، ولا يسعنا إلّا ان نتفاءل معه.
ماري م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة
"النّهار" الخميس 16 شباط 1995
(1)
عود الكبريت، مقالات ونصوص عن دار نلسن – السّويد،
والإهداء إلى بدر الحاج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق