أنهيت النهار الذي بدأ مع عفاف، بالنوم
بين ذراعيّ دانيال. اتصلت به وأنا على طريق جبيل، وطلبت منه أن يترك كلّ شيء
ويوافيني إلى بيتنا في العاقورة، فأنا لا أريد أن تراني البنات في هذه الحالة...
هكذا
كانت تقول سلوى... عندما تشعر بأنّها منصاعة رغمًا عنها إلى انهيار آخر: لا أريد
أن تراني البنات وأنا في هذه الحالة!
لكنّي
لست هي! هذا ما يؤكّده لي دانيال، لذلك أردت أن أجد نفسي معه، مع الشخص الوحيد
الذي يشيع في روحي الأمان، ويشبع جسدي حبًّا، وفي منطقة لا تشبه الشوف وعاليه
وبحمدون وبيروت وبعبدا والبترون، ولا عين يوسف ودير القمر ودير الصليب. قلت له حين
ضمّني إلى صدره: أرجوك دعني أنسى كلّ شيء، أرجوك امنعني عن الخروج من هنا. اتركني
منعزلة بين اللوحات التي ترسمها، والكتب التي نقرأها ونكتبها ونترجمها، بين جلول
التفّاح والصخور العنيدة، مع الثلج والريح والوحدة والصمت. لم يقل شيئًا بل ضمّني
إليه وتركني أبكي قدر رغبتي في البكاء، وأنا أعيد سرد حكاية خالتي، مردّدة بنقمة
سؤالًا واحدًا: لماذا لم تسمح الحياة لسلوى أن تنعم بالحبّ؟ فأجابني دانيال: لا
أعرف لكنّي أعتقد أنّها في قرارة نفسها تمنّت دائمًا أن تشبه العاشقة التي فيك لا
الكاتبة.
كانت
ليلة حبّ بلا كلمات ولا ذكريات ولا هواجس. قبّلت زوجي بنهم نساء كثيرات لم يعرفن
الحبّ، وقبّلني بشوقِ من طال به الفراق. كنّا بطريقة ما ضحّيتين من ضحايا الحرب،
خسرنا مراهقتنا مع بدايتها، وانعطفت أحلامنا ألف مرّة حين قرّرت المعارك بالنيابة
عنّا أين نتعلّم، وأين نتزوّج، وأين نقيم في السلم، وإلى أين نهرب عند القصف،
وبماذا ننصح بناتنا أن يتخصّصن في الجامعة، وإلى أيّ بلد نشير عليهنّ بالهجرة
والاستقرار. ومع وجود سلوى في حياتي، بدا لي دانيال أكثر من مرّة كمن ارتبط
بامرأتين، ومرّات كان يحوّل الأمر مزاحًا، أعرف من أيّ نبع حنان يصدر، فيقول: كأن
لا يكفيني أنتِ وأمّك وخالتك وبنتيها، حتّى أنجبت لي ثلاث بنات. وكنت أجيبه: لكنّ
بناتك عوّضن عليك بفريق من الشبّان: زملاء وأصدقاء وأحبّاء سابقين وأحبّاء حاليّين
ومشاريع عرسان ومن مختلف الجنسيّات والطوائف!
بدأ
الهواء الخريفيّ يعلن نهاية ذلك الصيف، فأغمض عينيّ اللتين تجدان صعوبة في استيعاب
كميّة الضوء الساطع النقيّ، بعدما اعتادتا على شاشة اللابتوب والهاتف الخلويّ،
وأستسلم لسكينة تلك المنطقة النائية. ينضمّ إليّ دانيال في الحديقة، ورائحة صابون
الاستحمام تسبقه، فيقف خلفي ويلفّ ذراعيه حول خصري، ويقبّل عنقي. فأسأله وأنا ألقي
رأسي على صدره: ماذا أفعل بالأوراق التي معي، كتابات سلوى، ومذكّرات جوزيان،
وحكاية أنطوني وسرّ خالتي؟ يغرق زوجي وجهه بين خصلات شعري المنسدل، ثمّ يغرز ذقنه
في كتفي، فيجاور خدّه خدّي، فتنتابني رغبة لذيذة في ممارسة الحبّ، وأزداد التصاقًا
به وهو يقول: عليك أن تنشري تلك الأوراق، هذا حقّهم عليك وواجبك تجاههم. وبشكل
خاصّ تجاه سلوى، لا لأنّك تشعرين بالذنب، عن غير وجه حقّ، تجاه بقائها في الجبل،
بل احترامًا لإيمانها بأنّ ما كتبته أجمل من حياتها، ففي نصوصها عاشت وعشقت
وانتقمت وتطهّرت وتمسّكت، في حديثها عن المرأة الدرزيّة التي سمّتها عذراء الجبل،
بخيط خلاص. ثمّ أضاف وهو يهمس في أذني بالطريقة التي يعرف ماذا تفعل
بي: ويمكنك أن تبدأي روايتك بالقول إنّ خالتك نامت مع رجلين في ليلة عيد القدّيس
الذي لم ينم مع امرأة. أفلتت منّي قهقهة مدويّة والتفت إليه لأتناول شفتيه كأنّي
أستردّه من أوراق سلوى، وأعيده حبيبي وزوجي ووالد بناتي وشريكي في كلّ شيء، وقبل
كلّ ذلك، الرجل الذي لا يبكيني بل يشرب دموعي حين تبكيني قصص عائلتي، والذي يثير
رغبتي فيه كلّما أضحكني.
في
أربعين سلوى، خالف رئيس دير الرهبان، المحتفل بالذبيحة الإلهيّة في كنيسة عين
يوسف، أوامر الكنيسة التي تمنع العلمانيّين من إلقاء الخطب والكلمات من على
المذبح. فسمح لي، ربّما بصفتي كاتبة وصحافيّة، وعلى الأرجح لأنّه لا يعرف ماذا
يقول عن امرأة أمضت عمرها في دير الصليب، بقراءة نصّ من نصوصها:
"
في ذلك الصيف البحمدونيّ، تساءلت أين سأدفن إن متّ فجأة. خطر لي الأمر وأنا أسمع
جيراني يتحدّثون عن المقابر التي نُبشت، وحرمة الموت التي انتهكت، فعاد إليّ مشهد
جدّتي المصرّة على دفن جدّي في القرية، بينما هي دُفنت في مدافن بلدة الحدث، حيث
اشترى المهجّرون من قرى الشوف وعاليه جوارير، يتجاور فيها، بهدوء تام، الموتى
الذين ما كان أحدهم يطيق الآخر في قراهم، بل يرفعون الدعاوى القضائيّة بسبب شجرة
زيتون أو حجر لامس طرفُه أرض الشقيق أو ابن العامّ أو ابن الخال.
هل
أريد أن يلتحف جسدي بتراب عين يوسف الذي ضمّ أجساد والدي وجدّي وعليا وأنيس وأسعد؟
وماذا لو عادت الحرب لتغتصب موتي كما اغتصبت حياتي؟ فأنا مذ عاد أهل قريتي ورمّموا
بيوتهم وبنوا الكنيسة وأعادوا إعمار المدافن، لم أنم ليلة واحدة فيها، إذ كنت أسمع
بعودة خلافات عنيفة بسبب متر أرض، والأرض كلّها كانت سليبة، وتصل إليّ في دير
الصليب مشاكل الإرث وتوزيع الحصص، والورثة كلّهم كادوا يموتون جوعًا أو قنصًا في
دير القمر، وأولادهم يهاجرون إلى غير رجعة. فتأكّد لي أنّ الدروز إن أرادوا قتلنا
مرّة أخرى، أو ربّما الشيعة والسنّة الذين يشترون الأرض، فلن يجدوا، كما دائمًا،
من يقف في وجههم. أعتقد أنّني أريد أن أدفن في دير الصليب، حيث أمضيت من العمر
سنوات أكثر من تلك التي أمضيتها في قريتي. هناك على الأقلّ، أكون قرب سليم، وإن
حصل وتشاجر اثنان قرب قبري، فسأجد لهما في الجنون عذرًا، والجنون الحقيقيّ أبعد ما
يكون عن الغباء، وأكثر براءة من أن تُلصق به جرائم الحرب، لأنّه أجمل من الحقد،
وأطهر من الشرّ، وأعمق من المعرفة، وأسمى من الدين. وشقيقي سليم مجنون حقيقيّ
لأنّه حاول إنقاذي بكلّ الطرق التي يعرفها ويقدر عليها، أمّا نحن، نحن كلّنا،
فمجرمون أو ضحايا.
قبل
أن أغادر بيتي البحمدونيّ المؤقّت، قلت للعمّ أديب: انتهى الصيف ولم تنتهِ حكايات
التهجير يا أبو جورج! فأجابني بأنّ لكلّ مهجّر حكاية ولكل عائد قصّة ولكلّ مفقود
وميت رواية، فكيف لشخص واحد أن يجمع كلّ ذلك في كتاب واحد؟ ثمّ سألني إن كنت قرّرت
أن أعود إلى الجبل لشراء بيت تحيط به حديقة، كما كنت ألمـّح دائمًا أمامه، فكان
جوابي سؤالًا: وهل عاد الجبل إلينا؟ أنت نفسك قلت لي إنّه لم يعد... ربّما أعود
حين تفتح مكتبة أنطوان وVirgin فروعًا
لهما في الجبل. ربّما".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق