مداخلة الدكتور سعود المولى حول رواية ماري القصيفي (للجبل عندنا خمسة فصول)، في ندوة عن الرواية أقيمت في مركز عصام فارس (وشارك فيها الباحث مكرم رباح الذي يعد اطروحة دكتوراه عن حرب الجبل، والكاتب بول عنداري الذي كان مسؤولاً عن "جبهة بحمدون" وفي حضور مفوّض الإعلام في الحزب التقدّمي الاشتراكيّ رامي الريّس)
رواية ماري القصيفي (للجبل عندنا خمسة فصول) هي من تلك المحاولات، القليلة للأسف، التي نحت بعد الحرب الأهلية منحى التعامل الأدبي والتصويري لوقائع منتقاة من سيرة الحرب... ولعل ماري اعتقدت أنها بذلك تنزع عن ذاكرة الحرب الجمعية (وهي عندنا ذاكرة جماعات وطوائف) محمولاتها الأيديولوجية الحادة وشحناتها العاطفية التدميرية، فتحيلها عبر أبطال روايتها وشخصياتها وسرديتها القصصية إلى مرويات وذكريات غامضة ضبابية فنية... ولعل ماري أراددت بروايتها هذه المشاركة في التأسيس لوعي نقدي لوقائع التاريخ، ولفهمه كما حصل عبر تعبيراته في ذاكرة من عاشوا تلك الوقائع. فهل نجحت ماري القصيفي في ذلك؟ وهل تنجح الرواية أصلًا في هكذا أمر؟ وهل مهمة الرواية كتابة التاريخ وتنقية الذاكرة وشفاء القلوب ومداواة أعطاب الواقع المميتة...
لا أدري!! فأنا لست بناقد أدبي أو روائي! كما أنني لست من جماعة "اتحادات الكتاب" التي انتشرت أيام الحرب الباردة وصارت ببغاوات أيديولوجية لهذا الطرف أو ذاك (خصوصًا جماعة جدانوف وكتابه: "إن الأدب كان مسؤولًا")...
في الرواية دائمًا شيء خاص حميم لا تدركه النظارات الحزبية الفئوية والتحشيدية... في الرواية أدب وفن وجمالية وصف وبلاغة تعبير الخ... في الرواية خيال يُبعدنا عن الواقع... ولكن هل الرواية حيادية؟ هل الرواية تعبوية؟ هل الرواية وصفية؟ هل الرواية ترميزية؟ هل الرواية غير الواقع؟الخ... أسئلة كثيرة لست أنا من يستطيع الكلام عنها...
ولكنني سأتحدث عما فهمته... فأنا قرأت في رواية ماري جزءًا من ذاكرة خصبة لم تتح لها السياسة أن تعبر عما في مكنوناتها... وقرأت أن أي واقعة من وقائع حربنا الأهلية مؤلمة وقاسية وعنيفة... ولكنها أيضًا حمّالة أوجه...أي أنها يقابلها واقعة أخرى جرت للآخر وعاشها الآخر بشكل آخر... وهذا الآخر هو دائمًا إما غائب أو مغيّب أو مشيطن في روايات الناس للأحداث، وفي ذاكرتهم عنها، كما في تخيّلهم لها. وهو لا يحضر في الرواية القصصية... فالرواية تروي عن أحد غير معني بالآخر... لا بل هو يعادي الآخر ويحقد عليه ويشيطنه ويحملّه كل آثام الدنيا... فهل هذا صحيح؟ وهل هذا صحي؟ أيضًا لا أدري!! فكل رواية تحكي عن زاوية ما، أو عن فئة من الناس، أو عن ناس محددين من شحم ولحم يعيشون مأساتهم وترويها الكاتبة عنهم... هذا النوع من الروايات مطلوب... ويا حبذا لو يكتب الناس روايات عن الحرب الأهلية... ويا حبذا لو يعمد السياسيون والمحاربون إلى كتابة سرديتهم عما عاشوه وعانوه وعاينوه... ويا حبذا لو يتم ذلك مع الابتعاد قدر الإمكان عن السجالات السياسية حول المسؤولية عن الحرب والمسؤوليات في الحرب والمسؤوليات عن وقائعها، خصوصًا منها المجازر الوحشية... فهذا باب يفتح على المجهول ولا فائدة منه...
إلا أن الرواية لا تستطيع إلا أن تكون رواية أي أنها تروي وفي الرواية إذن خطر فتح الجروح...فهل نوقف الروايات والأدب؟؟ كلا بالطبع...
ما أحببته في رواية ماري القصيفي هو العمق الإنساني في تصوير الشخصيات وفي وصف الوقائع... وليس عندي الكثير لأضيفه سوى أنني أحببت الرواية وأحببت أسلوب الكاتبة ولغتها واختيارها لشخصيات روايتها...
أما في الجانب السياسي فإنني أعتقد أن هذه الرواية هي من الروايات والسرديات القليلة التي تفتح أمامنا بابًا للتفكّر والتدبّر في مسألة ذاكرة الحرب الجمعية وفي كيفية التعامل مع الذاكرات المتناقضة المتحاربة وفي كيفية ايجاد الفسحة الوسيطة التي تسمح ببناء ذاكرة وطنية واحدة ومتعددة،ـ وتاريخ وطني واحد ومتنوع، دون الوقوع في الصهر والأحادية والنزعات الإلغائية الإقصائية للآخر... إن بناء وعي صحيح بهذه المسائل هو من أساسيات بناء الأوطان والدول. الذاكرة الجمعية الخاصة بالجماعات والطوائف لن تزول ولن تضمحل ولكن علينا التفكير في كيفية تحويل شحنتها العاطفية وآلامها المأساوية إلى دوافع لعمل الخير والمحبة لا إلى غرائز للانتقام...
هناك ستة أنساق من التعامل مع الماضي (أو الذاكرة) يمكن استخلاصها من تجارب الأمم والشعوب في عصرنا هذا:
1- فقدان الذاكرة: وهو حال ألمانيا واليابان بعدالحرب العالمية الثانية 1945، وحال إسبانيا بعد الحرب الأهلية 1936-1939، وروسيا وأوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية 1989-1991
2- المحاكمة والعدالة: محكمة نورمبرغ بعد سقوط النازية، محكمة العدل الدولية، بدايات المحكمة الدولية للجرائم ضد الإنسانية.
3- التطهير أو معاقبة المتعاملين مع العدو بطردهم من حقول الشأن العام: حال فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وأوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية.
4- التعويض المتفاوض عليه، وإعادة الاعتبار: حال ألمانيا مع اليهود، مفاوضات كندا وأستراليا مع السكان الأصليين، الوضع الممكن لشعار حق العودة الفلسطيني.
5- إعادة التثقيف السياسي الأيديولوجي: التجربة الشيوعية كمثال سلبي، وتجربة مبادرات التدريب على حل النزاعات وثقافة السلام كتيار إيجابي معاصر.
6- لجان الحقيقة والمصالحة: تجربة جنوب أفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية وربما المغرب.
حقاً إن الذاكرة الجمعية تستوحي حدثاً وقع في التاريخ إلا أنها تبسّط وتختزل هذا التاريخ، وتقوم بتنقيته، عبر الأسطرة والتحوير والتلفيق، مستخدمة في ذلك لغة رمزية خاصة .. إن الرموز التي تستخدمها الذاكرة الجمعية محمّلة بالمعاني والدلالات .. والذكريات التي تستعيدها تلك الرموز هي في الغالب مشاعر جماعية عميقة وعنيفة... فهي لذلك مصدر للاتحاد النفسي – البيولوجي الذي يلحم الجماعة...
إن التذكّر أمر يختلف عن التأريخ .. فهو ليس فقط عملية بيولوجية- نفسية وإنما هو أساساً عملية أيديولوجية- اجتماعية تخضع لمؤثرات البيئة والمكان والزمان، وقبل ذلك كله للاطار الثقافي – الايديولوجي الناظم والمحدد، وأيضاً وأساساً للمصالح المباشرة، الفردية أو العائلية أو العشائرية أو الجماعية.. وهذه المصالح ( الأهواء بلغة القرآن) تعمينا عن الحق والعدل إذ هي تؤطر رؤيتنا الذاتية كما الجمعية، وتحدد تالياً ذاكرتنا الفردية والجماعية... ولعل هذا هو ما دفع علماء الاجتماع الى القول بأن الذاكرة هي بناء اجتماعي معد للاستخدام عند الطوارئ... إن اعتبار الذاكرة "حقيقة موضوعية مطلقة ومجردّة"، والمماهاة بينها وبين "التاريخ"، قد حوّل التاريخ الى ذاكرة ايديولوجية مضخمّة انقسامية فارزة ومولّدة للحروب الأهلية... كما أن الاستخدام البراغماتي للذاكرة كخزان للمعلومات والمعطيات التاريخية يمكن تفريغه عند الطلب (عبر تذكّر احداث معينة تستدعي التعبئة والتحشيد للمواجهة او الحرب) ومن خلال الشعائر والطقوس والشعارات والأعلام والألوان والأعياد والمناسبات الخاصة، قد جعل من كل جماعة عبارة عن: دولة/أمة، لها تاريخها الخاص وذاكرتها الجماعية ووجدانها وضميرها، وقضاياها وهمومها واولويتها الخاصة...
ولذا فإنه ينبغي التوقف عن اعتبار ذاكرتنا الخاصة (ذاكرة جماعتنا) هي "التاريخ"، أو هي ذاكرة الوطن أوالأمة... واذا لم نميّز بين الإثنين فسيضيع الفارق بين الواقع والخيال، وبين الحقيقة والوهم، وبين التاريخ والايديولوجيا.. وبما أن الأحداث الواقعية (أوالتاريخ الفعلي) هي غير فهمنا وعيشنا وتفسيرنا لها، وخصوصاً في المجتمعات المنقسمة ( لبنان ويوغوسلافيا على سبيل المثال) فانه من الشرعي والمنطقي في مجتمعات كهذه حدوث اختلاف وتباين في الرأي والنظر الى الأحداث والوقائع وحول فهمها وتفسير خلفياتها، وحول وجود "حقيقة أخلاقية موضوعية مطلقة ومجردّة"...وتزداد المشكلة تعقيداً بسبب ما درج عليه العالم من كتابة المنتصر للتاريخ وفق هواه وعلى حساب المغلوب أو المهزوم الأمر الذي ولّد ويولّد جراحا اعمق وشرارات لحروب أشرس.. حدث هذا الأمر مع الألمان مثلاً في المرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى وهو أنتج النازية... ويحدث ذلك اليوم في المجتمعات المنقسمة أو المتعددة الهوية والإنتماء، بعد انفجار الايديولوجيات الإطلاقية وانهيار النظم الشمولية الأحادية، القامعة أو الضابطة ...
علينا التفكير والعمل من أجل إعادة الإعتبار إلى القيم الإنسانية الحقة وأولها إنسانية الإنسان وكرامته وحريته... وهذا هو المقدس المطلق أي الأصل الذي تنبني عليه علاقات البشر... ومن هنا واجب العمل على صياغة ميثاق أو منظومة القيم الإنسانية التي تحترم وتقدس حياة الإنسان وعقله وروحه وكرامته وحقوقه وحرياته، وتقدس اختلاف البشر كسنة إلهية وكحقيقة تكوينية، وتحترم هذا الاختلاف وتحترم حق الاختلاف وحق التعبير عن هذا الاختلاف من خلال التنوع والتعدد الثقافي.
إن السلم الأهلي والمصالحة الوطنية والتسوية العادلة المتوازنة هي أسس العقد الاجتماعي اللبناني ما يعني نبذ لغة التخوين والتكفير وعمليات نبش الذاكرة واستحضار الماضي استنسابياً. والمطلوب مراجعة نقدية حقيقية للتجربة الماضية عنوانها الحقيقة والعدالة. والمطلوب تأسيس ذاكرة وطنية جديدة وثقافة وطنية ديموقراطية تستوعب تجارب الماضي وتستفيد من دروسه ومحنه.
وبرأيي فإن الرواية والأدب والفن يمكن أن يلعبوا دورًا أساسيًا وتأسيسيًا...
تحية إلى ماري القصيفي لأنها تضع يدها على جراحنا...ولأنها تلامس قلوبنا... ولأنها تفتح ذاكرة على العودة إلى إنسانيتنا في كل لحظة وفي كل مكان...