الكتابة أمر خاصّ، والنشر شأن عامّ.
وأنا كنت دائمًا عاشقةَ كتابة وكارهةَ نشر، صديقةَ العزلة وعدوّةَ العلاقات الاجتماعيّة.
هاويةَ صمت في أكثر الأحيان، ومنجرفةً مع الحكي عند نوبات ثقة بالناس... لذلك حين بدأت النشر كتبت باسم مستعار (في الديار والنهار ومجلّة الناقد).
كانت تلك المرحلة من أكثر مراحل حياتي حريّة وسكينة. ليس الأمر تهرّبًا من مسؤوليّة، أو خوفًا من رقابة، بل هي رغبة أكيدة وعميقة في التنسّك للكتابة، الكتابة التي أؤمن أنّها تغيّرني ولا أوهم نفسي بأنّها قادرة على تغيير أحد.
كانت تلك المرحلة من أكثر مراحل حياتي حريّة وسكينة. ليس الأمر تهرّبًا من مسؤوليّة، أو خوفًا من رقابة، بل هي رغبة أكيدة وعميقة في التنسّك للكتابة، الكتابة التي أؤمن أنّها تغيّرني ولا أوهم نفسي بأنّها قادرة على تغيير أحد.
ومذ بدأت النشر باسمي وأنا أتّخذ كلّ يوم قرار الاعتزال والانعزال، لأعود عنه وأنا أراهن على مجتمع لا بدّ أن يمتلك يومًا يومًا ملكة القراءة والنقد، بعيدًا عن الانفعالات والمحسوبيّات والتعصّب. لكن ما حدث خلال الأعوام الماضية من أوهام ثورات في التواصل الاجتماعيّ والتحرّكات الشعبيّة، جعلني على تماس مع صحافة مرهونة لمزاجيّات وسلطات، وسوق كتب محكومة بالعلاقات العامّة، وعالم فوضويّ يسمح فيه أيٌّ كان لنفسه بأن يعطي رأيه في أيّ أحد، أو أيّ شأن...
لذلك عادت تلحّ علي رغبتي القديمة في الكتابة لنفسي، وإن نشرت فلمتعة تجمعني بمجموعة من المختارات والمختارين أهديهم كتبي أو نصوصي، لعلّ العالم يتقلص ليعود صغيرًا وحميمًا على قياس لقاء بين عاشقين.
وكنت أنتظر جملة إشارات لأفعل ذلك...
وهذا ما حصل.
1- إحصاءات الكتب في المعارض، وشهرة كتب لا قيمة أدبيّة أو فكريّة لها:
عرفت دومًا دور العلاقات العامّة (والخاصّة) في بيع الكتب وشرائها. لكن المعرفة من بعيد، لا تعني أنّني محصّنة ضدّ مفاجآت قاسية تعرّضت لها مذ خرجت إلى العلن كتابةً ونشرًا. ولكان الأمر بقي ضمن المقبول لو كانت الكتب التي تنتشر وتشتهر تمتلك الحدّ الأدنى من المضمون واللغة. لكن أن تتصدّر قائمة الشهرة والانتشار في المعارض والمكتبات والصفحات الثقافيّة كتبٌ أقلّ ما يقال في شأنها أنّها بسيطة ساذجة ركيكة، فذلك ما لم يعد لي جلد على قبوله أو المشاركة فيه أو الصمت عنه.
كثيرة الكتب التي استُشرت، مجّانًا، في شأنها، ودقّقت في لغتها، أو أسديت النصح لأصحابها في مسألة عنواينها وإخراجها (وفي أكثر الأحيان كانت نصيحتي عدم النشر)... وكنت أرحّب بكلّ مبادرة كتابيّة وفي بالي أنّ إصدار الكتب، ولو دون المستوى، أفضل من إصدار فتاوى دينيّة أو رخص لحمل السلاح...لكن حين تحتلّ هذه الكتب واجهة المشهد الثقافيّ وتصير علامة فارقة في الأدب، ويجتمع حول مؤلّفيها مئات ومئات من المريدين والمعجبين والمصفّقين في حفلات توقيع تجمع الإعلام والإعلان بتأثير من موقع كاتبها (أو كاتبتها) الاجتماعيّ أو الصحافيّ أو الوظيفيّ... فذلك كلّه ما لم يعد لي رغبة في معرفته أو الاطلاع عليه أو السكوت عنه من باب اللياقات الاجتماعيّة... بل، ولأكن صريحة، لا قدرة لي على مجاراته أو منافسته!
لذلك، أليس الانسحاب من هذا المشهد الثقافيّ حاجة نفسيّة تضمن نوعًا من الهدوء في زمن الضجيج؟
2- واقع الكتاب في المؤسّسات التربويّة:
ثير حفيظتي عبارات من نوع: عليه أن يقرأ لتحسين مستواه، أقرأها على دفاتر علامات التلامذة. فمعرفتي الأكيدة أنّ المعلّمين لا يقرأون تجعلني أتساءل عن جمهور القرّاء.
بدأت النشر وأنا في العمل التربويّ، وأنهيه وأنا في العمل التربويّ، لأنّي صرت على يقين من أنّ المدارس ليست المكان المناسب لإطلاق الكتب أو التعريف بالكتّاب. ولا أقصد بذلك مؤسّسة بعينها أو مدرسة محدّدة. فالواقع عامّ ومنتشر في مدارس لبنان وجامعاته. لذلك تعتمد دور النشر على العلاقات الشخصيّة في تسويق بعض الأسماء والعناوين، وإلّا لما استطاعت كتب كثيرة أن تجد مكانها على لوائح الكتب المدرسيّة.
وأستطيع أن أحصي بسهولة وسرعة، وقد أنهيت أربعة وثلاثين عامًا في التعليم والتربية والإدارة والتنسيق، عدد المعلّمين أو التلامذة أو الأهل الذين اشتروا كتبي بعيدًا عن واجب حضور حفلات التوقيع، أو موجبات العمل والمسايرة (لا علاقة للوضع الماديّ بالمسألة كلّها)، فضلًا عن أنّ كون المعلّم كاتبًا أو أديبًا لا يعني أنّه ضمن لنفسه مكانة مرموقة أو درجة مميّزة. وهذا حال أكثر الزملاء الذين يجمعون بين جنون الإبداع الأدبيّ ورتابة التدريس وقوانينه الملزمة.
لذلك، ألا يزال النشر أمرًا مغريًا يستحقّ أن يخصّص له وقت، أو تُهدر بسببه طاقة، في وقت يحتاج كلّ منّا فيه إلى ما نجا من عقله وأعصابه كي يتابع حياته من دون أن يكون عبئًا على أحد؟
يوم اتصلت بي جاين فغالي، مديرة دار النشر مختارات، لتخبرني أنّهم في صدد قفل الدار، وتسألني عمّا أريد فعله بكتبي الأربعة المنشورة عندهم، قلت له: أشتريها...
وبعد حديث اختلط فيه الجدّ بالسخريّة ممّا آلت إليه الأمور، قالت لي: يجب أن ترسلي سيّارة كبيرة تتّسع للكتب، فأجبتها: سأرسل سيّارة دفن الموتى!!
لا يحصل كلّ يوم أن يشتري الكاتب كتبه التي لم يربح من مبيعها ليرة واحدة.
أربعة كتب صدر أوّلها منذ أحد عشر عامًا، توزّعت عندي على الأرض وفي الأكياس وعلى رفوف أفرغت من أجلها، في انتظار توزيعها مجّانًا.( أبحث الآن عن آليّة تنفيذ ذلك).
لم يعنني وأنا أنظر إلى كتبي أن أحلّل الأسباب التي جعلت كتبي تصل إلى هذا المصير: دار النشر، شركات التوزيع، المكتبات، رفضي الإطلالات الإعلاميّة، رغبة الناس عن المطالعة...؟؟؟ ربّما كلّ ذلك... لكنّي في تلك المرحلة كنت أكتب في "النهار" التي كانت أكثر الصحف انتشارًا بين المثقّفين وهواة الكتب. ومع ذلك بقيت نسخ كتبي على رفوف دار النشر تنتظر منّي أن أشتري حريّتها في زمن بيع السبايا...
أليس من العبث أن أنشر كتبًا أشتريها أنا لأوزّعها مجّانًا... إنْ وُجِد من يرغب فيها؟
3- نوع القرّاء الذين أضع نصوصي بين أيديهم وأمام أعينهم:
نقلًا عن الفيسبوك:
هناك تعليقان (2):
يا سيدتي ...
هكذا أنت دائما و دومًا
أشعر معك بالمرارة، و لست بحاجة لأي تيرير أو محاججة من هؤلاء عابري الصفحات
أت الشجرة ا لمثمرة ، و دعيهم يلتهون برمي الحصى و سأقتبس من كلماتك ..." أنتِ أجمل شي فيي "
سيّدتي
نمعنتُ غير مرّة في ما قاربتِ من مشكلة أو مشكلات في ما بين دور النشر والأدباء ... والترويج = سواء في النشر أو في المعارض أو خلال تواقيع المؤلفين ... لمن لا شأن لهم ...لهنَّ لا أسلوبًا ولا عُمقًا...
ولو سلمنا جدلاً أن السلم يبدأ بدرجة - فدرجاتُ الأدب التأليف الأولى - كا قال لي يومًا الشاعر أدونيس - أن يعرف الأديبُ أن يُمزق من كتاباته
دائمًا أصحابُ الشُهرة قلّة ...وهم نادرون ... ولا يُمكن أن تُلقى الدرر لمن يجهل قيمتها فيدوسها
أنتِ صاحبةُ التاج
لا تهتمي ... ولا تتألّمي ... فالواقع هو الترويج للجهل لا للمعرفة والقيم
إرسال تعليق