موظّف حكوميّ |
فلنركع ونقبّل الأرض شاكرين السماوات على أنّنا لا نسمع كلّ يوم بعشرات الجرائم التي يرتكبها مواطنون مهانون في الدوائر الرسميّة. فعلى الرغم من كل ما قيل ويقال، ودحضًا للاتهامات التي تساق في حقّ اللبنانيّين وتلصق بهم صفات الغضب والانفعال والميل إلى الإجرام والعنف، لا بدّ من الاعتراف بأنّ الشعب اللبنانيّ يعدّ للعشرة، عشرات المرّات في اليوم، ويمنع نفسه عن الانجرار وراء غريزة الدفاع عن الكرامة، ويرفض أن يرتكب جرائم جماعيّة في حقّ موظّفين يتلاعبون به ويحرقون أعصابه ويهينونه ويسرقونه ويماطلونه و"يستغبونه". لا بل يحاول المواطن اللبنانيّ أن يجد لهؤلاء المحنّطين على كراسي الوظيفة أسبابًا تخفيفيّة تجعله يغفر لنفسه تخاذله عن الانتقام لنفسه أو تردّده في الصراخ مطالبًا بحقّه.
فأن تقصد مؤسّسة رسميّة عمل فيه الكثير من المخاطرة باستقرارك النفسيّ وبقايا كرامة نجت من الاعتداء عليها على حواجز القتل على الهوية أو عند المعابر بين المناطق المتقاتلة في سبيل الحريّة والسيادة والاستقلال. ومن أوّل شروط حصانتك ضدّ ما قد تتعرّض له أن تحسن توقيت توجّهك إلى أيّة دائرة رسميّة (طبعًا نحن لا نشير إلى دوام العمل في شهر رمضان). فخطأ جسيم تتحمّل وحدك نتائجه أن تذهب لإتمام معاملة قبل التاسعة صباحًا، وبعد الثانية عشرة ظهرًا، فقبل ذلك يكون الموظّف/ إذا كان في مكتبه/ لا يزال في حالة تأمّل صباحيّة صامتة تحضّره للانكباب على العمل ولذلك لا يحبّ أن يزعج سكينته أحد، وبعد انتصاف النهار يكون التعب قد أخذ منه كلّ طاقته فلا يعود في إمكانه أن يحرّك عضلة في وجهه ليبتسم لك فكيف تريد منه أن يحسن معاملتك و"يختمها"؟ أمّا الخطيئة الكبرى فأن يتزامن وصولك إلى الدائرة الرسميّة مع موعد توزيع القهوة عند العاشرة تمامًا، فهذا وقت مقدّس لا يعيق الاحتفالَ بطقوسه العملُ المكدّس، خصوصًا أنّ القهوة مش طيّبة بلا سيكارة، والسيكارة بدّها هواء طلق على الشرفة، والشرفة بدّها قعدة غير شكل. وإذا عاد الموظّف ولمح على وجهك أنّك غير راض عن تأخيره لك وأنّك بطريقة ما تتهمه بإعاقة معاملته أحالك إلى موظّف آخر يعرف سلفًا أنّه غير متوفّر اليوم للخدمة وعليك أن تعود في يوم آخر.
صارت البهدلة قوتًا يوميًّا، لا بل أضحت إدمانًا لا نستطيع تخيّل حياتنا من دونه: فإن توقّفت على إشارة المرور بهدلك السائق خلفك لأنّك "عامل حالك نظاميّ"، وإن خالفت الإشارة بهدلك شرطيّ المرور لأنّك لا تفهم قوانين السير. وإن اتصلت بطبيبك لتشكو له أعراضًا غريبة ومفاجئة بهدلك "لأنّو مصيبتك كبيرة وبتضلّ تزعجو"، وإن كتمت علّتك وداويت نفسك وتدهورت حالك، بهدلك الطبيب نفسه لأنّك "مفكّر حالك حكيم وعم تعالج مشاكلك حتّى توفّر مصرياتك". وإن كنت تلميذًا ونلت علامة منخفضة بهدلتك المعلّمة لأنّك كسول ولا تبذل أيّ جهد، وإن بذلت جهودًا وارتفعت علامتك بهدلتك المعلّمة نفسها لأنّ أحدًا ساعدك في البيت أو لأنّك غششت في الامتحان. ولكن أن تصير بهدلة الناس من شروط الوظيفة الرسميّة أو الإداريّة فهذا يعني أنّك لست زبونًا كي تكرّم كما في المطاعم والفنادق والمحال التجاريّة، بل مزعج ثقيل الدم لن تقدّم أو تؤخّر في راتب أحد.
والطامة الكبرى أنّ المواطن لا يستطيع أن يحزر متّى سيكون عرضة للبهدلة كي يستعدّ نفسيًّا، فعالَم الإدارات الرسميّة غابة مسكونة لا يُعرف متى يحلّ فيها الليل وتخرج شياطين العالم السفليّ لترعب بني الأنس. أخبرتني سيّدة اضطرّت إلى "تخليص" معاملتها بنفسها أنّها فتحت حقيبة يدها لتتناول منديلاً ورقيًّا، فصرخ بها الموظّف بشراسة: شو عم تعملي؟ من فضلك سكّري جزدانك. وحين أجابته وهي لم تفهم بعد سبب حنقه عليها: آخذ محرمة. هل هذا ممنوع؟ أجاب: "حسّبتك عم تعملي شي تاني".
فإلى المتوجّهين اليوم لإتمام معاملة رسميّة، تذكّروا أنّكم لستم زبائن كي تكونوا دائمًا على حقّ.
أنتم مجرّد مواطنين في دولة بلا قوانين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق