مات كثيرًا قبل موته الأخير اليوم.
مات على دفعات، حين ماتت طفلته الأولى، ثمّ حين ماتت الثانية، وحين مات والده، وحين ماتت جدّتاه وأمّه، وحين مات يوسف ابن عمه، ومارون ابن خالته، والياس ابن حميه، وأسعد زوج ابنة عمّه، وحين مات كثر من أبناء الريحانيّة وسكّانها الذين صاروا أهلها وأهله: الستّ شفيقة، والستّ ليلى، والست نيني، والعمّان اسكندر وكميل، والجارة سيدة، وميشال وأنطوان وبو يوسف، وآخرون كثر رحلوا تاركين شمس الريحانيّة تنطفئ خلف أبنية حديثة لا علاقة لنا بها ولا بالمقيمين فيها.
مات كثيرًا، وقام من موته كثيرًا: حين ولدت بناته، حين نجحن في الدراسة والعمل، حين انطلقن في الحياة، حين بتن يحقّقن أحلامهنّ، حين اطمأنّ إلى أنّه قام بواجبه على أكمل وجه.
قلت له مرة: انتبه ع صحتك كرمال الصبايا. أجابني بفخر ممزوج بالتعب: بالي مرتاح علين، شاطرين.
مات كثيرًا، وقام من موته كثيرًا: حين ولدت بناته، حين نجحن في الدراسة والعمل، حين انطلقن في الحياة، حين بتن يحقّقن أحلامهنّ، حين اطمأنّ إلى أنّه قام بواجبه على أكمل وجه.
قلت له مرة: انتبه ع صحتك كرمال الصبايا. أجابني بفخر ممزوج بالتعب: بالي مرتاح علين، شاطرين.
أيّة صدفة تلك التي جعلتني اليوم أنشر على صفحة الفيسبوك الفيديو الذي صوّرته صباحًا عن ساحة الريحانيّة؟ هل كنت أعلم أنّ المياه التي أغرقت شارعنا الوحيد تنبئ بالفراق، كما يقولون؟ هل كان ابن عمّي جريس يغرق في حزنه وهو يرى بلدته تتغيّر إلى ما لا يشبهها؟ هل يتماهى بعض الناس ببلداتهم، فيولدون معها ويموتون معها؟
جريس، الأستاذ جورج، زوج جاندارك التي لم يجفّ دمعها بعد على الياس شقيقها الوحيد، والد مريام وسارة وريبيكا، شقيق جوزفين وناديه وعبده وأولغا والياس وجان وليلي وبيار وسيمون... جريس، ابن عمّي عزيز وزوجته سعاد، شرب قهوته بعد الغداء ورحل إلى حيث صار لنا هناك أهل وجيران يبنون الريحانيّة الجديدة، ويجلسون على مقاعدهم المفضّلة في كنيسة السماء، ويصلّون لنا.
***
قبل غياب ابن عمّي كانت عبارة "متمّمًا واجباته الدينيّة" التي نكتبها على أوراق النعي، ترسم على وجهي ابتسامة سخرية، فكيف يُعقل أنّ يتمّم كلّ الناس واجباتهم الدينيّة؟ هل يعرفون كلّهم متى يأتي السارق، ومتى تكون النهاية؟
لكنّ "جريس" مات متمّمًا واجباته الدينيّة بلا أدنى شكّ. اليوم بالذات نسّق الأزهار استعدادًا لقدّاس الأحد، انفعل لأنّ آلات التبريد في الكنيسة معطلة، هيّأ صوته كالمعتاد لخدمة الذبيحة المقدّسة، طلب من قلبه أن يسعفه أيضًا وأيضًا، وانتظر على أحرّ من الجمر أن يأتي الأحد، أحد العنصرة، ليخدم القدّاس كما اعتاد أن يفعل منذ ستّين عامًا، أي مذ كان طفلًا، لم يغب خلالها إلّا حين كان طبيب القلب يجبره على ذلك، فارضًا عليه راحة لم يعرف ابن عمّي مرّة كيف يتصالح معها. فبين التعليم وخدمة الكنيسة، كان هناك دائمًا ما يُعمل.
الرجل المسكون بهاجس الأناقة، الرجل الذي يغنّي في كلّ مناسبة أغنية كارم محمود "سمرا يا سمرا"، الرجل الذي يحبّه تلامذته، الرجل الذي يرنّم ولا يثرثر، يرتّل ولا يتكلّم، ينتبه لأدقّ التفاصيل ويقوم بالواجب، الرجل الذي خرج، مرّة بعد مرّة، من سرير المرض رافضًا الموت... تعب! تعب واشتاقت روحه إلى الذين صاروا هناك وكانوا يدلّلونه ويفتخرون به.. تعب من الموت الكثير، تعب من توديع الراحلين، تعب من المسؤوليات، تعب من الأدوية لقلبِه المثقل بالهموم، قلبِه الذي لولا خدمة الكنيسة كان انفجر من زمان... تعب وراح يبحث عن الراحة...
والريحانيّة، التي تودّع وجهًا بعد آخر، وصوتًا بعد آخر، وقلبًا بعد آخر، لن يعرف مذبح كنيستها التزامًا كالتزامه، ولن تعرف السهرات والرحلات والأعراس فيها صوتًا كصوته، ولن يعرف الجيل الجديد من الأبناء والأحفاد، بغيابه، ما معنى أن يرتبط إنسان ببلدته حدّ الانصهار، فيرحل قبل أن يشهد تغيّرات لا تطيقها روحه ولا يرضاها قلبه.
هناك تعليقان (2):
أتقدمُ منكِ بالتعزية - بما لها من معنى
وأطلبُ إلى الله أن يمدكِ بعمرٍ طويل وقلبٍ مفعم بحبِّ الآخرين والعطاء
ولا شكّ أنّ الأستاذ جورج يتقبّل ألسنة النار المقدسة من لدن الله في السماء
من أجمل ما قرأت وصفا ومشاعر وإنسانية. أفضل الصمت عزيزتي ماري لأنه لا معنى للكلام... ولكن جورج بلا شك اكمل شوطه على الأرض وانطلق نحو بداية جديدة. أقدم لك تعزياتي الحارة. سمر صهيون
إرسال تعليق