ثمّة نضج واضح في رواية رينيه الحايك الصادرة مؤخّرًا عن دار التنوير، حيث
تنساب اللغة بلا فذلكة أو رسائل فكريّة وأخلاقيّة مباشرة، وتجري الأحداث بتلقائيّة جعلتنا الحرب
اللبنانيّة نرضخ لها، وترتسم الشخصيّات في البال والقلب بلا استئذان أو إزعاج.
هي رواية من روايات الحرب إذًا... وطبعًا! وهل يخيّل لعاقل أنّنا سنكتب عن
أمر آخر ونحن نقترب من الذكرى الأربعين للحرب اللبنانيّة، وأكثرنا لم يعرف كيف
تكون الحياة بلا حروب؟
أتوقّف في قراءتي السريعة للرواية عند المحطّات التالية:
1- هي رواية
جنوبيّة في موسم هجرة الرواية اللبنانيّة نحو الشمال، أي أنّ أحداثها تقع في
الجنوب عشيّة الاجتياح الإسرائيليّ للبنان وخلاله، كأنّ الحايك تعيد توجيه الاهتمام
إلى أنّ الحلّ يأتي من هناك، لأنّ المعركة الأساس هناك.
2- قد تكون هذه الرواية هي الأولى، بحسب علمي طبعًا، التي تصفّ بعمق وتفصيل حياة المسيحيّين
الشيوعيّين المنتمين إلى جبهة المقاومة اللبنانيّة، وتبرز موقفهم المعادي
لإسرائيل، ووقوع بعضهم في الاعتقال والأسر. وهذا يزيل عن الصراع مع إسرائيل الطابع
الإسلاميّ، ويبعد تهمة العمالة عن المسيحيّين كطائفة.
3- تعيد الرواية
التذكير بدور الجدّين في حماية الأرض والعائلة، كأنّ الحايك حين جعلت الحرب تقتل
ابنهما الطبيب، وترحّل زوجته الشابّة إلى كندا حيث أهلها، تاركة لحمويها ثلاثة
أطفال، أرادت، أي الكاتبة، أن تضع الحلول في أيدي الأجيال السابقة، بعدما فشل جيل
الأبناء في حماية القضايا التي نادى بها، وترك للأحفاد الدمار والغربة واليتم.
4- تبدو العلاقة
بالأرض، من خلال العمل الزراعيّ فيها، مهربًا لكثير من الأزمات الماديّة والنفسيّة
التي عانى منها شخوص الرواية.
5- لم تظهر
الهجرة علاجًا ناجعًا، إذ أضاءت الرواية على أنّ الحياة في كندا، وإن كانت بعيدة
عن الحرب، ليست بالسهولة التي يتخيّلها الناس.
6- تمجّد الرواية
الشجاعة المترافقة مع المعرفة، من خلال شخصيّات الأحفاد الثلاثة (خصوصًا روبير
وكاميليا). وأذكّر هنا بأنّ الرواية ترى الجيل الثاني، الذي واكب الحرب وشارك في
عمليّاتها هو الخاسر الأكبر، في حين كان الجيل الأوّل مكتفيًا بالعمل بلا شعارات
حزبيّة وأحلام تغييريّة كبرى، وبدا الجيل الثالث شاهدًا على خيبة من سبقه، فحاول
الجمع بين الدراسة والعمل في الأرض... وإن كان الغامض لا يزال يرزح على مستقبلهم.
7- تنظر
الرواية بموضوعيّة، قد تبدو قاسية لبعض القرّاء، إلى دور الأمّ الشابّة الجاهلة،
التي حين فقدت زوجها الطبيب (قتله في بدء الرواية قتل للأمل بمن ينقذ الناس من الموت)، وعجزت عن تدبّر أمرها، تركت أولادها ورحلت. وعلى
الرغم من أنّها في رسائلها كانت تؤكّد على رغبتها في ضمّ أولادها إليها في كندا،
ووعدت أكثر من مرّة بالمجيء لرؤيتهم، إلّا أنّ خبر زواجها من رجل أجنبيّ وإنجابها
منه، جعلا الأرض والجدّة - وحتّى راهبات المدرسة الداخليّة- أكثر أمومة منها.
8- لا تراهن الحايك
على قدرة الحبّ على تخطّي الشرخ الطائفيّ في البلد، حتى عند اليساريّين.
9- تذكّر الرواية
بأنّ الإنسانيّة لا علاقة لها بدين أو جنس أو انتماء (فلسطينيّون يساعدون سكّان
القرى، ووشاة من أهل البلد يسلّمون الإسرائيليّين المقاومين،...)
10- تمجيد العلاقة
الأخويّة أتى طبيعيًّا ومن ضمن السياق المتوقّع لمجريات الحياة، بعد مقتل الأب
ورحيل الوالدة.
11- العبارات القصيرة توحي بضغط الحرب وتأثيرها على الناس.
12- الرواية مرصد كبير للواقع اللبنانيّ بوجوهه السياسيّة والاجتماعيّة والطائفيّة والزراعيّة (مصطلحات الأرض والمؤونة والمأكولات...) والتربويّة (مسألة التخصّص الجامعيّ..)
"رسالة من كندا" لرينيه الحايك
التي تكتب وتنشر بلا صخب إعلاميّ، تعيد تذكيرنا بوقت كنّا نقرأ فيه روايات لا نريد
تركها قبل أن نعرف ماذا ينتظرنا في الصفحة التالية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق