المهجّرون المسيحيّون في الطريق إلى دير القمر (1983) الصورة من أرشيف الطبيبة السويسريّة DR Josiane Andre |
كان
جدّي سليمان يجلس على السطيحة أمام منزله المطلّ على الطريق الوحيد الذي يعبر
القرية، ويتأمّل مقاتلي القوّات اللبنانيّة المنتشرين في الحقل قبالته. وصل صوت
همدرته وشتائمه إلى جدّتي نجلا التي كانت تعدّ له ترويقته المعتادة المؤلّفة من
ثلاث بيضات مقليّة بالقورما، وصحن سلطة من البندورة والنعنع. فأتت وهي تحمل صينيّة
القشّ، وحين وضعتها أمامه، انتصبت تنظر إلى حيث ينظر، وسألته بصوت مرتفع وهي تعيد
ربط منديل "الأويا" على رأسها: "ما بك تشتم ولا شيء يعجبك؟"
أشار جدّي بعصاه، من دون أن يتلفّظ بكلمة، إلى شابٍ من المقاتلين يقف عند طرف
الحقل. فصرخت جدّتي وقد فهمت ما رآه زوجها: "يا كَسْرتي شو مجدوب هالصبيّ!
واقف عكس الهوا وعم يطيّر ميّ؟!"
ابتسم جدّي مطمئنًّا إلى فطنة زوجته، وقال وهو
يتابع بنظره الحادّ الشابّ الذي كان ينفض رذاذ بوله عن سرواله الكاكيّ وحذائه
العسكريّ: "من الأوّل قلت هودي الشباب رح يخربوا الدني، واحد ما بيعرف يطيّر
ميّ بدّو يعمل قبضاي ويربّي الدروز. الله يسترنا!".
جدّي التسعينيّ هذا مشى مع موكب الهاربين، حين وصل
خبر سقوط بحمدون وصدور الأوامر بالتوجّه إلى الدير. لم يرضَ أن يركب في عربة
عسكريّة لأنّ القوّات هم الذين أخطأوا في حقّ الدروز والمسيحيّين. ونَهَرَ كلّ من
عرض عليه أن يقلّه معه من أهل القرية صارخًا بهم: "كلّ عمرنا نروح ع الدير
مشي، خدوا النسوان والولاد". جدّتي أصرّت على المشي معه، وانطلق موكب
الموجودين في القرية، وتخلّف عنه أربعة: والدي وقريبان لنا هما أنيس وأسعد، وعليا
العجوز التي تركت قريتها منذ زمن بعيد وأتت إلى عين يوسف بسبب الحبّ فقتلتها
الحرب. وضاع اثنان أثناء المسير: أنا وسليم الذي أصرّ على العودة لجلب الراديو
معه، وحين احتمينا مع اشتداد القصف حولنا، تأخّرنا عن الموكب وتهنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق