"للجبل عندنا خمسة فصول"...
استرجاع سرديّ أم تبصّر رؤيويّ؟؟!!
بقلم باتريك رزق الله
هل انتهَتِ الحربُ اللبنانيّةُ بفصولها الدمويّة؟ هل عاد
المسيحيّون فعلاً إلى الجبل؟ هل أصبحْنا مواطنين نمارسُ مواطنّيتَنا بحضارةٍ
ورقيّ؟ هل انتقلنا من المنطق العشائريّ إلى منطق الدّولة؟ عن هذه الأسئلة حاولَتْ
ماري القصّيفي الإجابةَ في روايتِها الجديدة "للجبل عندنا خمسة فصول"
التي استرجعَتْ فيها مشاهدَ وأحداثًا من حربِ الجبل.
الأسبابُ المحليّةُ والإقليميّةُ للحربِ، كما فصولُها السّياسيّةُ،
غابَتْ عن الرّواية. لكنّ تبعاتِها الآنيّةَ حضرَتْ بقوّة وعلى نحوٍ ممنهج ومدروسٍ
في تعليقات الرّاوية سلوى أبو مرعي عن أحداثِ الزّمنِ الحاضر. إنّه الزّمنُ
المتسلسلُ والمتواصل. دائرةٌ من فراغٍ مصيريّ، أو قلْ كابوسًا موحشًا يعيشه
اللبنانيّون في يوميّاتِهم.
إنّ الرّوايةَ بأبعادِها الحضاريّةِ والاجتماعيّةِ والثقافيّة،
تطرح إشكاليّاتٍ مصيريّةً عديدةً عن الواقعِ الحالي والمستقبل. وهذا ما يجعلنا
نسأل: أهي استرجاعٌ سرديٌّ واستحضارٌ لأحداثٍ حصلَتْ في الماضي، أم تبصّرٌ رؤيويٌّ
لأحداثٍ ستحصلُ في المستقبل؟ لا أعتقدُ أنّ ماري القصّيفي توخَّتْ حفظَ الذّاكرةِ
الدّمويّة لتلك الحربِ المشؤومةِ في الرّواية. أو أنّ لديها ثأرًا مع طرفٍ شاركَ
في الحربِ أو مع آخر، فتجرّأتْ على ذلك في الرّواية. لا أعتقدُ ذلك على الإطلاق.
لكنّني على يقينٍ أنّ لديها ثأرًا مع الحاضرِ مستمدًّا من الماضي. هو ثأرٌ مع
اللادولة، واللاقيم، واللاحضارة. وأنا على يقينٍ أيضًا أنّ لديها حقدًا عميقًا على
الذّاتِ العامّة، واللاإنسانيّةِ في لبنان. فالوحشيّةُ في روايتِها سلوكٌ مجتمعيٌّ
عام. كذلك الكراهيّة. والحربُ عندها ليسَتْ نزاعًا واضحَ المعالمِ والأسباب. إنّها
ميلٌ فطريٌّ إلى القتل، واعتداءٌ دائمٌ على الكرامةِ البشريّة، بقدريّةٍ أبديّةٍ
غارقةٍ في اللونِ الأحمر، لونِ الدم.
يبدو لي في الرّوايةِ أنّ الموتَ حكمٌ جماعيٌّ سرمديٌّ في لبنان
بأوجهٍ مختلفة. هو الموتُ النّفسيّ. والموتُ المعنويّ. والموتُ الجسديّ. موتُ
الحجر، وموتُ البشر، وموتُ الأحلام. هو الموتُ يكادُ يتسلّلُ إليك مرّاتٍ كثيرةً
من مشاهدِ الرّواية، يستحضرُهُ حشد هائلٌ من المفرداتِ الموحشةِ والقاتلة. فتشعرُ
بالاختناق، وطبعًا بالخوفِ والتمرّد. إنّها نتيجةُ البراعةِ في السّرد، والدقّةِ
في رسمِ مشهديّةٍ واقعيّةٍ أليمة.
من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضرِ إلى الماضي، نجحَتْ ماري
القصّيفي في السّير بالقارئ بين أروقةِ الزّمن في اندماجٍ وصفيٍّ كليّ، بين
الدّاخل والخارج، بين الأماكن والشخصيّات. ولبنان الأمس عندها كما لبنان اليوم،
بلا أفقٍ، بلا مستقبل. أمّا الفرد، فعلى الدّوام، بلا مشروع، وبلا هُويّة. يخاصمُ،
يقاتلُ، يعقدُ الصُّلحَ، ويسامح. كيف؟ ولماذا؟ لا جواب. كيف بدأتِ الحرب؟ وكيف
انتهَتْ؟ لا جواب.
"للجبل عندنا خمسة فصول" قبضٌ على حربِ الجبلِ في ذكراها
الثّلاثين. إنّها جدلٌ غيرُ مباشِرٍ مع الذّات. أرادتْهُ الكاتبةُ حوارًا واعيًا
وصريحًا، يستلهمُ منه القارئُ أفكارَهُ النّقديّة. فلا تكادُ تنتهي من القراءةِ
حتّى تنطلقَ في رحلتِكَ التأمليّة عن ال"أنا" الفرد، والـ"هو"
الوطن. تطرحُ الأسئلةَ وتعجزُ عن فكِّ الجواب.