كولاج من تنفيذي |
"إبادة" هي الكلمة التي استخدمها الطبيب الفرنسيّ حين نقل له طبيب لبنانيّ - فرنسيّ صديق ما ورد في مقالتي منذ أسابيع عن عدد الحالات السرطانيّة الجديدة التي تسجّل في لبنان كلّ عام، أي حوالي ثمانية آلاف حالة بحسب ما أعلن وزير الصحّة الذي عاد وأكّد الخبر في حديث تلفزيونيّ وهو يحذّر من أنّ الدولة عاجزة عن تأمين العلاج المتداول حاليًّا، وسيكون الوضع أصعب لتأمين الأجيال الجديدة من الأدوية التي بدأت تعطي نتائج إيجابيّة حيث استخدمت. قال الطبيب الفرنسيّ وهو يتساءل عمّا تفعله الحكومة اللبنانيّة في هذا الشأن: إن لم تكن هذه إبادة فأنا أتساءل ما هي الإبادة في رأي اللبنانيّين. وفي مزيد من الشرح، قال الطبيب الصديق: هذا يعني أنّ هناك إصابات بالمرض لم تكتشف باعتبار أنّ اللبنانيّين لا يخضعون لفحوص طبيّة دوريّة لأسباب كثيرة كالجهل والإهمال والفقر وتمنّع شركات التأمين عن تغطية هذه النفقات وعدم وجود ضمانات طبيّة حكوميّة، مما يعني أنّ الحالات المعلنة هي ثمانية آلاف حالة جديدة أمّا الحالات التي لا يعرف بها المرضى أنفسهم فلا أحد يعلم عددها أو نسبتها، وبالتالي يصحّ أن نقول: صحّتنا هي العجب لمن يسأل عن سقمنا.
وجد اللبنانيّون أخيرًا عدوّهم المشترك الذي يريد إبادتهم بصرف النظر عن أعمارهم وجنسهم وطوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم ومراتبهم الاجتماعيّة، ولم يركنوا خلافاتهم جانبًا كي يواجهوه متّحدين، بل يصرّون على الإمعان في تجاهل هذا الواقع العلميّ الطبيّ من أجل أهداف أقلّ ما يقال فيها أنّها لن تنفعهم متى أصيبوا هم أو المقرّبون منهم بالمرض. هذا في ما يتعلّق بمرض واحد لا أحد يريد أن يدرس أسباب انتشاره على هذا الشكل المخيف. فكيف ستكون الصورة لو أضفنا أمراضًا خطيرة سواه منتشرة بسبب تلوّث الهواء والمياه والتربة؟ الصورة في اختصار هي أنّنا شعب مريض يرفض الاعتراف بواقع حاله ولا يجد ما يدعوه الى درس الأسباب التي أوصلته إلى ما هو فيه من حالات عقم وسوء تغذية وبدانة وسكّري وأمراض قلب، عدا تأثير الأفلام ذات البعد الثلاثيّ على الدماغ والنظر وقيادة السيّارات، وغير ذلك كثير ومخيف. فلنقلها صراحة: في هذا المجال لا يقع اللوم على السياسيّين وحدهم. فحين يعرف شعب كامل أنّه في مواجهة وباء أو مرض أو كارثة طبيعيّة ويبقى مصرًّا على معرفة أيّ برنامج نكات وطرائف هو الأوّل في لبنان: "لول" على المحطّة التلفزيونيّة التابعة للجنرال، أو "أهضم شي" على المحطّة التي تؤيّد الحكيم، لا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يتحسّر ويقول: يا ليل يا عين على هذا الشعب (إلاّ إذا صار الصحيح هو يا "لول يا عون") أو أن يقول: "أهضم شي" أن يموت اللبنانيّ من الضحك على نفسه لشدّة غبائه. وفي الحالين، النتيجة واحدة و"منستاهل أكتر من هيك".
لا يسعنا أمام هذه الإبادة الجماعيّة التي يرفض سياسيونا التحقيق عمّن يقف وراءها (النفايات الكيماويّة والقذائف الإسرائيليّة والأطعمة الفاسدة) إلاّ أن ننحني باحترام أمام كلّ مريض يرغب في الشفاء وهو يعلم سلفًا بأنّه سيكون وحيدًا في مواجهة المشكلات الجسديّة والنفسيّة والماديّة والاجتماعيّة التي ستفرض نفسها عليه. فلماذا يرغب مريض مسؤول عن تصرّفاته وتخطّى سن الرشد في الحصول على علاج باهظ الكلفة في حين أن لا دولة تسأل عنه، ولا مؤسّسات طبيّة متخصّصة ترشده؟ ألا تدعو إلى التأمّل شجاعة المريض اللبنانيّ، الذي يقاوم المرض وتداعياته ويتناسى ما يسمعه عن الأخطاء الطبيّة والإهمال في المستشفيات، ويملأ الاستمارات المطلوبة وهو راضخ لتكشيرة الموظّفين، كلّ ذلك بهدف أن يستعيد صحّته ويعود إلى حياته "الطبيعيّة"؟ ولماذا؟ ليسمع نشرات الأخبار وتصريحات السياسيّين وتحليلات الصحافيّين وتهديدات الزعماء وسيناريوهات الحرب، ثمّ يتحامل على أوجاعه وآلامه ومعاناته ويحمل جسمه النحيل ويمشي في تظاهرة خلف زعيمه، وبما تبقّى من قواه العقليّة والجسديّة يهتف: بالدم بالروح نفديك يا ...ولا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يتساءل عن المنطق الذي يتحكّم في هذا المريض اللبنانيّ: فالدم تبرّع به له الناس بعد ألف نداء ورجاء حين التهم المرض خلاياه، والروح كادت ان تزهق ووُهبها في آخر لحظة. فهل يضحّي بهما من أجل من لم يسأل عنه حين كان يواجه موته وحيدًا؟ لعلّنا نقرأ في الحريق الهائل الذي عجزت إسرائيل عن مكافحته، مع أنّها تملك ترسانة عسكريّة ضخمة، دروسًا في تحديد الأولويّات. وإلاّ فقليل علينا ما يصيبنا.
***
جريدة النهار - الثلاثاء 7 كانون الأوّل 2010
هناك تعليقان (2):
Bonsoir Marie
ألله ينجينا من الأعظم ....ألله يساعد الفقير ...إن مقالتك تسلط الضوء على أخطر معضلة في لبنان...يا رب إحم الجميع
المشكلة يا أولغا أنّ من يستطيع معالجة الوضع لا يقرأ وإن قرأ فلن يعنيه الأمر. ومن يقرأ ويهتمّ لا يجرؤ على التفكير بأنّه قادر على المشاركة في إيجاد الحلّ
إرسال تعليق