وسط بيروت
لم أكتف من تنقلاّتي في سيّارات التاكسي بجمع الأخبار الحزينة واللحظات الإنسانية المؤلمة، كانت الطرائف والمواقف المضحكة جزءًا من حياة السائقين اليوميّة، ولولا ذلك لا أحسب أنّهم كانوا احتملوا هذا الدوران اليوميّ على إيقاع الأبواب التي تفتح وتغلق لزبائن من مختلف الأعمار والأجناس والجنسيّات والأمزجة.
قال لي أحدهم إنّ صفْق الباب هو صفّارة الانطلاق على الطريق. وكم من مرّة انطلقت السيّارة من دون الزبون الذي كان يقف على الرصيف مشدوهًا لا يفهم ما الذي يجري. وقال محدّثي إنّ هذا النوع من الحوادث يقع دائمًا وخصوصًا أمام المطار حيث لا يستطيع السائق أن يركن سيّارته ليساعد الزبون في نقل حقائبه إلى السيّارة. فيأتي الحمّال ويفتح الباب الخلفي ويضع بعض الحقائب، وما أن يسمع السائق صوت الباب وهو يغلق حتى ينطلق من دون أن ينتبه إلى أنّ العائد من السفر لا يزال واقفًا على الرصيف.
وروى لي آخر أنّ سيّدة اتصلت بالمكتب لتطلب سيّارة، ففوجئ عامل الهاتف بسلسة من الشروط لم يسمعها من أحد آخر مجتمعة ومحضّرة كأنّها تقرأ من مرسوم جمهوريّ، مع العلم أنّ أكثرها من طبيعة هذا العمل ولا داعي لذكره بهذا الأسلوب المتعجرف: سيّارة من لون معيّن، التأكّد من أنّ الإطارات في حالة جهوزيّة تامة، نظافة السيّارة، نظافة السائق، عمر السائق، شكل السائق، الدقيقة التي يجب أن تكون فيها السيّارة أمام المبنى وإلاّ امتنعت عن الركوب فيها، وهي غير مسؤولة عن ازدحام السير أو أي عرقلة أخرى. وقبل أن تتابع السيّدة جدول الشروط، صرخ بها عامل الهاتف قبل أن يقفل الخطّ: "مدام، سكّرنا المكتب، وتركنا الشغل، والله يلعن هالوظيفة ويللي بعد بيشتغل فيا".
أمّا أطرف ما حصل معي شخصيًّا فيختصر في الحكاية التالية:
بعدما اتخذت مكاني في سيّارة التاكسي، رنّ هاتفي المحمول فرددت، وكان كلامي مع المتّصل بي يدور حول شؤون التربية والتعامل مع التلاميذ، وقد سمحت لنفسي بالاسترسال فيه لسببين: أوّلاً لأنّ المسافة طويلة وجاء الحديث ليلهيني عن التذمّر الصامت من ازدحام السير ومخالفات السائقين، ولأنّ الموضوع في حدّ ذاته مشوّق وليس فيه شيء من الخصوصيّة التي قد نخشى أن يطّلع عليها الغرباء. وما أن أنهيت حديثي الطويل، حتّى بادرني السائق بسؤال كان من الواضح أنّه كان ينتظر بفارغ الصبر طرحه قبل أن يوصلني إلى حيث أقصد. وبما أنّ السؤال كان عن طبيعة عملي في التربية وما إن كان في استطاعتي أن أساعده في حلّ مشكلة عالقة مع زوجته الحامل بسبب اختلاف الرأي بينهما في ما يتعلّق بتربية ابنهما البكر ذي الأعوام الثلاثة، وتحضيره لاستقبال المولود الجديد. وكان من الطبيعيّ أن أنقل إليه الرأي العلميّ والنفسيّ في الموضوع، غير أنّ ما نصحته به هو كيف يتكلّم مع زوجته كي يستطيع إقناعها بالمنطق والعلم وبأسلوب هادئ بعيد عن التشنّج، وعلى جرعات خفيفة كي تقتنع مثلاً بأنّه لا يجوز لطفلهما أن ينام معهما في السرير.
والطريف في الموضوع، أنّني بعد بضعة أيّام، وحين كنت أستدعي سيّارة تاكسي من المكتب نفسه، سألني عامل الهاتف وهو يضحك إن كنت لا أمانع في إرسال السائق الذي أقلّني في المرّة السابقة لأنّه أوصى بأن يتمّ إرساله حين أتصل مرّة ثانية. وبالفعل أتى السائق نفسه، وما أن جلست على المقعد الخلفيّ حتّى فاجأني بتقرير مفصّل عمّا نصحته بالقيام به وكيف كانت ردّة فعل زوجته وعن مقدار النجاح الذي حقّقه في الأيّام الأخيرة. ثمّ سأل إن كان يستطيع طرح المزيد من الأسئلة عن مدرسة ابنه، ورغبته المرضيّة في تناول السكاكر وامتناعه عن تناول أطعمة أخرى، وما إلى ذلك من الأسئلة التربويّة.
أجبته عن أسئلته وأنا أفكّر في أنّ الكلام ولو في التربية رخيص في حين أنّ البنزين غال. وبالتالي لا بدّ من أن أدفع أجرة السيّارة، في حين أنّ الرجل المهموم بأمور طفله فرح لأنّه حصل على جلستين علاجيّتين مجانيّتين.
قال لي أحدهم إنّ صفْق الباب هو صفّارة الانطلاق على الطريق. وكم من مرّة انطلقت السيّارة من دون الزبون الذي كان يقف على الرصيف مشدوهًا لا يفهم ما الذي يجري. وقال محدّثي إنّ هذا النوع من الحوادث يقع دائمًا وخصوصًا أمام المطار حيث لا يستطيع السائق أن يركن سيّارته ليساعد الزبون في نقل حقائبه إلى السيّارة. فيأتي الحمّال ويفتح الباب الخلفي ويضع بعض الحقائب، وما أن يسمع السائق صوت الباب وهو يغلق حتى ينطلق من دون أن ينتبه إلى أنّ العائد من السفر لا يزال واقفًا على الرصيف.
وروى لي آخر أنّ سيّدة اتصلت بالمكتب لتطلب سيّارة، ففوجئ عامل الهاتف بسلسة من الشروط لم يسمعها من أحد آخر مجتمعة ومحضّرة كأنّها تقرأ من مرسوم جمهوريّ، مع العلم أنّ أكثرها من طبيعة هذا العمل ولا داعي لذكره بهذا الأسلوب المتعجرف: سيّارة من لون معيّن، التأكّد من أنّ الإطارات في حالة جهوزيّة تامة، نظافة السيّارة، نظافة السائق، عمر السائق، شكل السائق، الدقيقة التي يجب أن تكون فيها السيّارة أمام المبنى وإلاّ امتنعت عن الركوب فيها، وهي غير مسؤولة عن ازدحام السير أو أي عرقلة أخرى. وقبل أن تتابع السيّدة جدول الشروط، صرخ بها عامل الهاتف قبل أن يقفل الخطّ: "مدام، سكّرنا المكتب، وتركنا الشغل، والله يلعن هالوظيفة ويللي بعد بيشتغل فيا".
أمّا أطرف ما حصل معي شخصيًّا فيختصر في الحكاية التالية:
بعدما اتخذت مكاني في سيّارة التاكسي، رنّ هاتفي المحمول فرددت، وكان كلامي مع المتّصل بي يدور حول شؤون التربية والتعامل مع التلاميذ، وقد سمحت لنفسي بالاسترسال فيه لسببين: أوّلاً لأنّ المسافة طويلة وجاء الحديث ليلهيني عن التذمّر الصامت من ازدحام السير ومخالفات السائقين، ولأنّ الموضوع في حدّ ذاته مشوّق وليس فيه شيء من الخصوصيّة التي قد نخشى أن يطّلع عليها الغرباء. وما أن أنهيت حديثي الطويل، حتّى بادرني السائق بسؤال كان من الواضح أنّه كان ينتظر بفارغ الصبر طرحه قبل أن يوصلني إلى حيث أقصد. وبما أنّ السؤال كان عن طبيعة عملي في التربية وما إن كان في استطاعتي أن أساعده في حلّ مشكلة عالقة مع زوجته الحامل بسبب اختلاف الرأي بينهما في ما يتعلّق بتربية ابنهما البكر ذي الأعوام الثلاثة، وتحضيره لاستقبال المولود الجديد. وكان من الطبيعيّ أن أنقل إليه الرأي العلميّ والنفسيّ في الموضوع، غير أنّ ما نصحته به هو كيف يتكلّم مع زوجته كي يستطيع إقناعها بالمنطق والعلم وبأسلوب هادئ بعيد عن التشنّج، وعلى جرعات خفيفة كي تقتنع مثلاً بأنّه لا يجوز لطفلهما أن ينام معهما في السرير.
والطريف في الموضوع، أنّني بعد بضعة أيّام، وحين كنت أستدعي سيّارة تاكسي من المكتب نفسه، سألني عامل الهاتف وهو يضحك إن كنت لا أمانع في إرسال السائق الذي أقلّني في المرّة السابقة لأنّه أوصى بأن يتمّ إرساله حين أتصل مرّة ثانية. وبالفعل أتى السائق نفسه، وما أن جلست على المقعد الخلفيّ حتّى فاجأني بتقرير مفصّل عمّا نصحته بالقيام به وكيف كانت ردّة فعل زوجته وعن مقدار النجاح الذي حقّقه في الأيّام الأخيرة. ثمّ سأل إن كان يستطيع طرح المزيد من الأسئلة عن مدرسة ابنه، ورغبته المرضيّة في تناول السكاكر وامتناعه عن تناول أطعمة أخرى، وما إلى ذلك من الأسئلة التربويّة.
أجبته عن أسئلته وأنا أفكّر في أنّ الكلام ولو في التربية رخيص في حين أنّ البنزين غال. وبالتالي لا بدّ من أن أدفع أجرة السيّارة، في حين أنّ الرجل المهموم بأمور طفله فرح لأنّه حصل على جلستين علاجيّتين مجانيّتين.
هناك 3 تعليقات:
و عندما يكون الراكب طبيباً فإنه يعطي استشارة مجانية, و فوقها يدفع ثمن التوصيلة..
مقالة جميلة :)
أشكرك ياسين على مرورك وتعليقك. نصوص مدوّنتك تثير الاهتمام وتدعو إلى النقاش الذكيّ بموضوعاتها وضيوفها. أهنّئك.
شكراً للتهنئة!! و يشرفني جداً أن أعلم بزيارتك لمدونتي و ما أخط بها من نصوصٍ متواضعة ليست أكثر من نقاطٍ قليلة في بحر علمكم و فصاحتكم.
تحية
إرسال تعليق