المرأة الكاتبة لا تكتب التّرف
بل التّحرّر من سلطة الرّجل
ذكيّة جدًّا كانت ميّ م. الرّيحاني في دخولها عالم
الصّحافة الثّقافيّة والاجتماعيّة من الباب الواسع، عبر تبادلها رسائل أدبيّة
ممتعة مع إعلامي وكاتب معروف (زاهي وهبي) على صفحات جريدة ذات مستوى عالمي رفيع
("النّهار"). لكن "الملاحظة" الّتي خرجت بها السّيّدة
الرّيحاني، من دراسة متعمّقة(!) للكثير ممّا "كتب عند العرب في أدب
السّيرة"، لم تكن ـ في رأيي ـ ذكيّة على الإطلاق، ولا حتّى كبوة... فرس
أصيلة، بل مجموعة من النّظريّات اللاّمنطقيّة والمضلّلة.
تقول: "إنّ الأديبات ، في شكل عامّ، عشن طفولة
مرهفة، وما ثورتهنّ وميلهنّ إلى الأدب إلاّ وسيلة للتّحرّر من سلطة الرّجل
إجمالاً... وهنّ لم يعرفن المعاناة المادّيّة أو الفقر، كما لم يسعين إلى العمل
بدافع الحاجة أو لقمة العيش... (بينما) الرّجال هم من عائلات فقيرة أو متوسّطة
الحال في أفضل الظّروف. فمن منّا لا يعرف كيف كانت طفولة جبران خليل جبران ومخائيل
نعيمة وخليل حاوي وبدر شاكر السّيّاب وطه حسين. ومن منّا لا يعرف، في المقابل، حياة
اللاّحرمان المادّيّ الّتي عاشتها ميّ زيادة وإميلي نصرالله وكوليت خوري وسعاد
الصّبّاح وإلهام منصور". وترى ميّ م. الرّيحاني في مقالها، الّذي يبدو أنّه
يهدف إلى الجدل، إنّ الكتابة عند المرأة ترف أجتماعيّ أو نوع متطوّر من أشغال
يدويّة لا تختلف عن تلك "الّتي كانت تفرضها العائلات الأريستوقراطيّة على
بناتها". وبعد أن تستشهد ببعض ما جاء في السّير الذّاتيّة لفدوى طوقان وجبرا
ابراهيم جبرا وميشال عاصي وليلى عسيران. تنقل عن شاعر لم تذكره بالاسم قوله
"إنّ الرّجل يريد الوصول إلى مركز اجتماعيّ من طريق الأدب، والمرأة تريد
الوصول إلى الأدب من طريق المركز الاجتماعيّ، أو (على الأقلّ)، بعد استقرار الوضع
الاجتماعيّ". ثمّ تتساءل: "أيمكن أن يفسّر هذا القول السّبب الّذي يجعل
انتاج الأدباء الرّجال عامّة أكثر غزارة وتواصلاّ، حين إنّ مزاجيّة المرأة
واطمئنانها إلى موقعها الاجتماعيّ الموروث يجعلانها قليلة الانتاج الأدبيّ ـ في
شكل عامّ أيضًا ـ ميّالة إلى إقامة التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات
الأدبيّة؟" وتتوقّع الرّيحاني في سياق مقالها اتّهام بعض القرّاء لها بأنّ
كلامها هذا "يحمل الكثير من التّجنّي والعدائيّة"، لكنّها تدافع عن
نفسها ـ أو هكذا تتصوّر ـ بالقول: "قد يكون الأمر كذلك لو كنت رجلاً، أو لو
كان كلامي غير مثبت بالبراهين المكتوبة لأديبات وأدباء في سير حياتهم... وكم
يسرّني أن أعرف ـ إذا أمكن ـ إنّي أخطأت في قراءتي أو في فهمي لهذه السّير، أو أن
يخبرني أحد عمّا لم أقرأه منها".
قبل دحض معلومات ميّ م. الرّيحاني واستنتاجاتها بشواهد
وإثباتات عدّة، بضع ملاحظات على بعض الأمور الهامشيّة الّتي لفتت نظري:
1ـ السّذاجة هي ألطف الكلمات العديدة الّتي قفزت إلى
رأسي لوصف الجملة الافتتاحيّة لهذا المقال،
المفترض له أنّه رصين وعميق: "لا أدّعي إنّي قرأت كلّ ما كتب عند
العرب في أدب السّيرة، ولكن...!"
2ـ قليلة جدًّا هي السّير الذّاتيّة فلا يجوز إطلاقًا
الاكتفاء ببعضها، أوحتّى بها كلّها، للخروج بنظريّات واقتناعات وأحكام. وعلى
الباحث الجدّيّ والموضوعيّ أن يطّلع على التّراجم الموثوق بها، ويحدّد المعطيات
والأسس الّتي تقوم عليها دراسته وأبحاثه ليتمكّن بعدها، فعلاً لا تبجّحًا، من
الخروج بمعلومات واستنتاجات ذات أهميّة وفائدة.
3ـ من السّذاجة أيضًا القول:" من منّا لا يعرف كيف
كانت طفولة" هذا الكاتب أو تلك الشاعرة، لأنّ القلائل جدًّا بيننا ـ نحن
اللّبنانيّين، نحن العرب ـ يعرفون أو يهتمّون بمعرفة كيف كانت تلك الطّفولة، بينما
الكثيرون لم يسمعوا باسم فلان أو فلانة من
هؤلاء الأدباء أو الشّعراء. ألا تدرك ميّ م. الرّيحاني أنّنا نعيش "أزمة
احتضار الكتابة واحتلال الأميّة والجهل والغباء مساحة العقل" كما يقول الياس
خوري في "الملحق" (20/2/1993)، وإنّ "من أصل مئتي مليون عربي أو
يزيد، لا نجد أكثر من ثلاثة ألاف قارئ على مدى ثلاث سنوات لكتاب عربيّ (ما عدا كتب
الطّبخ طبعًا)"؟
4ـ من السّذاجة أيضًا وأيضًا أن تتصوّر مي م. الرّيحاني
إنّ كونها امرأة ينفي عنها تلقائيًّا تهمة التّجنّي على الأديبات ومعاداتهنّ،
فاللّواتي يهاجمن بنات جنسهنّ ـ ظلمًا وحقدًا وحسدًا، وأحيانًا كثيرة بحقّ ـ يفقن
بكثير عدد نظرائهنّ الذّكور. كذلك الأمر لاعتماد كلام "أحد الشّعراء"
لتفسير السّبب "الّذي يجعل انتاج الأدباء الرّجال عامّة أكثر غزارة
وتواصلاً... (ويجعل المرأة) قليلة الانتاج الأدبيّ ـ في شكل عامّ أيضًا ـ ميّالة
إلى إقامة التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة".
المرأة الّتي يقول مارون عبّود إنّ الله خلقها من لحم
ودمّ بينما خلق الرّجل من... تراب، كانت متساوية والرّجل قبل الشّرائع والقوانين
الّتي سنّها هو وقيّدها بها. والمرأة، كما ورد في محاضرة لميّ زيادة عام 1936، هي
الّتي "غذّت النّوع البشريّ جنينًا قرب قلبها، وحملته طفلاً على منكبيها،
وأوقفته على قدميه إنسانًا (بعدما كان يدب على أربع قوائم)، وقدّمت له الطّعام
يافعًا وكهلاً وشيخًا، وداوته مريضًا جريحًا، وواسته حزينًا، وزانت بيته بالأدوات
والمعدّات... هي الّتي وضعت وهي لا تدري، أسس العلوم والفنون والصّنائع... ولو لم
يوجد في قوم سوى مدرسة واحدة لارتأيت أن تخصّص تلك المدرسة للبنات دون الشّبّان،
لأنّ ما تعرفه المرأة يتعلّمه الرّجل بطبيعة الحال منذ الصّغر..." (ميّ
زيادة: نصوص خارج المجموعة، إعداد أنطوان القوّال، 1993 ـ نقلاً عن
"المقتطف").
لنفترض إنّ رجلاً يكتب بغزارة ويواصل الكتابة والانتاج،
فهل هذا يعني فقط أنّه موهوب ومثابر، غير مزاجيّ مثل المرأة، وعاش بالتأكيد حياة
الحرمان المادّيّ في طفولته؟ ألا يتحتّم علينا أن ندرك وجود عنصر أساسي ورئيسي
لهذه الغزارة وذاك التّواصل، هو الأمّ أو الأخت أو الزّوجة أو الابنة أوالعشيقة أو
الخادمة أو الممرّضة الّتي تهيّئ له من وسائل الرّاحة النّفسيّة والفكريّة
والجسديّة ما لا يمكنه إطلاقًا تأمينه بنفسه، أو بواسطة رجل آخر؟ وأسأل... بسذاجة:
"من منّا لا يعرف" إنّ الرّجل الأديب أو الشّاعر "عامّة" لا
يطبخ ولا يغسل الثّياب ولا ينظّف البيت، ولا يعرف آلام الحمل والمخاض والوضع، ولا
يبقى اللّيل كلّه أو بعضه مستيقظًا لإرضاع طفل جائع أو لسهر عليه مريضًا، ولا يقوم
بأي من المهام الملقاة تقليديًّا على عاتق المرأة ـ "في شكل عامّ
أيضًا"؟ فهل ننتظر منها غزارة في الانتاج وتواصلاً؟
أمّا عن المعاناة المادّيّة أو الفقر (والمعاناة نسبيّة
كما الفقر)، فهما ليسا وقفًا على الرّجال، كما لا يمكن ولا يجوز الاعتماد عليهما
كقاعدة. فجبران مثلاً لم يكن أكثر فقرًا من معظم أقرانه، لكنّه برع بينما ظلّوا هم
على هامش الزّمن. وهل من الضّروري التّذكير هنا بما عانته أمّه وأخته مريانا
للسّهر على راحته وبما تيسّر من المال؟ وهل ننسى فضل ماري هاسكل عليه؟ وميخائيل
نعيمة، الّذي تعلّم في فلسطين وروسيّا والولايات المتّحدة ـ بمنح دراسيّة، ودعم مادّيّ من شقيقيه، وعمله في أثناء
الدّراسة ـ هل عانى مادّيًا أكثر ممن سبقوه أو عاصروه؟ فلماذا إذن حلّق هذا الرّجل
في عالم الأدب والفلسفة، وبقي
الآخرون في كثرتهم السّاحقة بعيدين كلّ البعد عن الفكر والكلمة؟ وفي المقابل، ولد
غابي اسكندر حدّاد "وفي فمه ملعقة من ذهب" ولكنّه "بصق الملعقة
الذّهبيّة وتلقّف الشّعر". نوّهت به موسوعة "لاروس" مع زملائه
الكبار رشيد نخلة وأسعد سابا وأسعد السّبعلي، في معرض تحليلها لإحياء الشّعر
الشّعبيّ في لبنان. عاش النّصف الأوّل من حياته القصيرة (1925 ـ 1965)، كما يقول
جامع قصائده الصّحافيّ جوزف نحّاس، "مليونيرًا مترفًا"، لكنّه أنفق
نصيبه من ثروة أبيه ـ صاحب "بنك اسكندر حدّاد" ـ ليقول: "خي كوع
الشّعر ما أحلاه". من شعره (عام1948):
"بلادي إلي ومنا إلي بلادي،
يا حسرتي ويا حسرة ولادي.
هنّي وأنا عصافير،
وكيف بدنا نطير،
والدّرب، كلّ الدّرب ، صيّادي".
الشّعر، لا الفقر، هو الّذي حوّل الأريستوقراطي الثّريّ
إلى بوهيميّ معدم، وأدّى إلى ابتعاد زوجته عنه "على حبّها الجارف، أحدهما
للآخر". مارون عبّود يرحّب بالفقر "إذا كان منبتًا للعباقرة"، لكن
الحرمان المادّيّ ليس سببًا وحيدًا أو رئيسيًا للشّقاء. ويرى أديبنا الرّاحل إنّ
الشّقاء عنصر مقوّم للأدباء، "إذ لا بدّ للأديب من العبور في معصرة الألم
لتبقى خمرته على الدّهور والأجيال". وإذا لم يجد الأديب شقاء "شقيّ
بعقله كالمتنبّي مثلاً". وأعود إلى غابي اسكندر حدّاد، "شاعر ندى"
(كما نقول "جميل بثينة")، لأنقل عن مجلّة "الأمن" (آذار 1993)
الواقعة التّالية عن الشّقاء: "طلبت إليه إحدى ملكات الجمال التّغزّل بها فلم
يستطع تناسي ندى، وقال مرتجلاً وهو المقلّ في الارتجال:
لولا ندى ويا ريت ما خلقت ندى
ما كنت بعشق بالدّني غيرك حدا
هيي الشّقا وإنت الهنا، لكن أنا
خلقان قلبي للشّقا مش للهنا."
غسّان غصن
جريدة "النّهار" الإثنين 29 آب 1994
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق