هنّ الكاتبات صالونيّات مرفّهات
وعندهنّ القلم مثل ترف وتطريز؟
أين هي الدّراسات والإحصاءات الموضوعيّة الجادّة الّتي
تثبت إنّ أديبات العرب، "في شكل عامّ"، عشن طفولة مرهفة، وإنّ الأدباء
الرّجال هم من عائلات فقيرة أو متوسّطة الحال في أفضل الظّروف؟ ألم تقرأ ميّ م.
الرّيحاني لخلفاء وملوك وأمراء ونبلاء (أو عنهم) تفوّقوا في الشّعر والأدب، مع إنّ
حياتهم كلّها ـ لا طفولتهم فحسب ـ كانت أكثر بكثير من... مرهفة؟ ألم تقرأ، في
المقابل، لأديبات وشاعرات بارعات عشن طفولة كلّها حرمان ومعاناة وشقاء (لكنّهنّ
ترفّهن لاحقًا وهنّ زوجات أوجاريات أو خليلات)؟ لضيق المجال هنا، أحيل السّيّدة
الرّيحاني ومن يوافقها الرّأي ـ وهم في تصوّري، السّاذج ربّما، قلائل ـ إلى ثلاثة
من كتب التّراث العربيّ القديم، الحافلة بالشواهد والأدلّة: "الأغاني" ـ
"العقد الفريد" ـ "وفيّات الأعيان".
وإذا ألقينا "نظرة سريعة" على طفولات أدباء
النّهضة (الرّجال) الّذين عاشوا بين منتصف القرن الماضي والرّبع الأوّل من هذا
القرن، نجد كثيرين منهم ـ إن لم يكن معظمهم ـ كانوا أبناء حسب ونسب وجاه. مثالاً
لا حصرًا (مع حفظ الألقاب): فرنسيس مراش، عمر الأنسي، حسن بيهم، عبدالله فكري،
أسعد طراد، ابرهيم الأحدب، شاكر شقير، جبرائيل دلال، نجيب الحدّاد، أحمد تيمور،
محمود سامي البارودي، خليل الخوري، حسن الجسر، نجيب ابرهيم طراد، ناصيف المعلوف،
محمّد إرسلان، أحمد فارس الشّدياق، عبد الهادي نجا الأبياري، رشيد الدّحداح، سعيد
الشّرتوني، سليم بطرس البستاني، يوسف الشّلفون، حسن حسني الطّويراني، ابرهيم
المويلحي، مخائيل الصّبّاغ، حيدر الشّهابيّ، شهاب الدّين الألوسي، طنّوس الشّدياق،
حنانيا المنير، ابرهيم النّجّار، سليم وحبيب بسترس، سليم النّقّاش، محمّد بيرم
التّونسيّ، جميل مخائيل المدوّر، يوسف الدّبس، سليم شحادة، رفاعة وعلي رفاعة
الطّهطاوي، عبد الرّحمن الكواكبي، ابرهيم اليازجي، قاسم أمين، مصطفى كامل، محمّد
حسين هيكل، ولي الدّين يكن، شكيب إرسلان، يعقوب صرّوف، شبلي شميل، خليل مردم بك،
مرشد خاطر، سليمان البستاني، أمين الرّيحاني، أنيس الخوري المقدسي، الياس أبو
شبكة، وغيرهم (راجع "مشاهير الشّرق" لجرجي زيدان، "الأعلام"
لخير الدّين الزِّرِكلي، "أدب العرب" لمارون عبّود).
كيف تبرّر مي م. الرّيحاني نظريّتها القائلة إنّ
الأديبات، ولو في شكل عامّ، لم يثرن أو يملن إلى الأدب إلاّ بغية التّحرّر من سلطة
العائلة الّتي يمثّلها الرّجل إجمالاً، ولم يسعين إلى العمل للحاجة أو لقمة العيش،
أو الكتابة عندهنّ ترف اجتماعيّ، أو قليلات الانتاج الأدبيّ... ميّالات إلى
التّجمّعات الثّقافيّة والصّالونات الأدبيّة؟ ماذا حدث للموهبة، والتّربية، وتشجيع
الأدباء (أو الأزواج، أو الأعمام، أو الأشقّاء، أو حتّى الأبناء ـ كما حدث مع
حبّوبة حدّاد ووحيدها فؤاد)؟ هل قرأت الرّيحاني مثلاً "أعلام النّساء"
لعمر رضا كحاله، و"بلاغة النّساء في القرن العشرين" لفتحيّة محمّد،
و"الدّرّ المنشور في طبقات ربّات الخدور" لزينب فوّاز (وكلّها سير
وتراجم)؟ هل قرأت "عائشة تيمور" و"باحثة البادية" لميّ زيادة،
و"التّوهّج والأفول" لروز غريّب عن مي زيادة؟... ومن سلطة أي رجل حاولت
التّيموريّة وميّ زيادة التّحرّر؟
صحيح إنّ الأديبة التّيموريّة هي "سليلة الحسب
والنّسب إبنة اسماعيل تيمور باشا رئيس القلم الإفرنجيّ للدّيوان الخديويّ (وزير
الخارجيّة) وزوج محمّد توفيق زاده نظير بيت المال (وزير المال)، كما يقول جابر
عصفور في جريدة "الحياة" (26/5/1992). لكن عائشة نشأت منذ صغرها ـ كما
يذكر معاصرها جرجي زيدان ـ "مائلة إلى الأدب والشّعر... (و) ظهرت قريحتها
الشّعريّة في سنّ مبكرة، فأخذت تطالع الأدب والدّواوين". وتذكر ميّ زيادة في
كتابها عن عائشة تيمور، "كانت أمّها ـ وهي شركسيّة الاصل، معتوقة والدها
اسماعيل تيمور باشا ـ تحاول إرغامها على تعلّم أشغال الإبرة والتّطريز، كما كانت
عادة الفتيات آنذاك. لكن الفتاة كانت تبرم بهذه الأشغال، إذ تشعر بميل فطري إلى
العلم لعلّها ورثته عن أبيها، فتكبّ على الدّرس والمطالعة. فما كان من الوالد
العطوف إلاّ أن رتّب لها أستاذين أحدهما لتعليم الفارسيّة والثّاني لتلقين العلوم
العربيّة، وصار يسمع ما تتلقّاه من الدّروس كلّ ليلة بنفسه". وإذا صحّ
التّاريخ الّذي أورده جرجي زيدان لزواجها (1854)، فهذا يعني إنّ الأديبة الشّاعرة
تزوّجت في الرّابعة عشرة. وعندما شبّت ابنتها توحيدة، أي بلغت الثّانية عشرة في
مفهوم ذلك العصر ـ "عهدت إليها بمهام المنزل" وعادت هي إلى الأدب والعلم
والشّعر "فأتقنت النّحو والعروض على فاطمة الأزهريّة وستيتة الطّبلاويّة...
وأخذت تنظّم الأزجال والموشّحات والقصائد بالعربيّة والفارسيّة والتّركيّة". لكن
توحيدة توفيّت في عامها الرّابع عشر، فندبتها أمّها سبع سنوات "حتّى أصابها
الرّمد وضعف بصرها. لكنّها عادت إلى الشّعر والكتابة، تجد فيهما عزاء، وتحاول بما
تكتبه من قصص ومقالات أن ترفّه عن المغبونين...".
وفي كتاب إميلي فارس ابرهيم "أديبات
لبنانيّات" (طبعة أولى بدون تاريخ) نجد أمثلة عديدة على إنّ الأدب والشّعر
عند النّساء، كما عند الرّجال، موهبة ودرس وخبرة، فوردة اليازجي لم تكن مرفّهة
أكثر من أخيها ابرهيم، أو مطمئنّة أكثر منه إلى المركز الاجتماعيّ الموروث. وهذه
السّيّدة الّتي أنجبت خمسة أولاد، وفجعت بأحبّاء كثر من أسرتها (والديها وأشقّائها
وشقيقاتها وزوجها وابنتها وابنها)، وكابدت الكثير في حياتها، هل ذهبت للتّدريس في
الإسكندريّة ـ وهي أرملة في الحادية والسّتّين ـ لمجرّد التّسلية، أو للحاجة ولقمة
العيش؟ وزينب فوّاز، النّابغة العامليّة، لم تكن أريستوقراطيّة المولد والمنشأ، بل
خادمة في البيوت، أمّيّة، لم تقع عينها على كتاب حتّى صباها. لم تكن حتّى جميلة أو
أنيقة، تزوّجها خادم في قصر أسرة الأسعد (كما ذكر عارف الزّين) أو أحد أفراد حاشية
أسرة يكن المصريّة (بحسب رواية جرجي باز). لكنّها كانت صاحبة ذكاء خارق وطموح شديد
إلى الاستزادة من العلم والمعرفة، ذاع صيتها بعد إن بدأت تراسل الصّحف ـ بدعم من
أستاذها حسن حسني باشا الطّويراني، صاحب جريدة "النّيل" ومن بين الّذين
أعجبوا بأدبها "أديب نظمي" (أديب دمشق آنذاك)، فراسلها وراسلته ـ كما
تذكر إملي فارس ابرهيم في ترجمتها ـ وانتهى بهما هذا الاتصال الفكري إلى الزّواج.
ويقول محمّد يوسف مقلّد، تلميذ أديب نظمي، إنّ تلك العلاقة الزّوجيّة (كانت لها
ضرائر ثلاث) لم تدم أكثر من ثلاث سنوات. وأكتفي هنا بما قاله هذا الأديب عن تلك
الكاتبة اللاّمعة: "نلاحظ بكثير من الفخر إنّ أديبة كزينب وظروفها وزمانها،
اضطلعت إلى حدّ كبير بحمل "رسالة" فذّة تعتبر جد سابقة لأوانها، وهي
رسالة "بعث المرأة العربيّة من جمودها ورجعيّة محيطها... إنّ امرأة اضطلعت
... بحمل هذه الرّسالة النّاهضة وفي حين كذلك الحين، لا أرى مبالغة في أن أقول:
إنّها معجزة... وإنّ محاولتها كانت شبه "أسطورة" تستحقّ كلّ
تمجيد". فهل هذه "الدّرّة الفريدة في دنيا المرأة في العصر الماضي...
الّتي تفوق قيمة وشأنًا الكثيرات ممّن كتبت سيرهنّ في كتابها (الدّرّ المنشور، 435
صفحة) ذاك وخلّدتهنّ"، كما تقول إميلي فارس ابرهيم دون مبالغة، هي من
اللّواتي كانت الكتابة عندهنّ "ترفًا اجتماعيًّا أو نوعًا من الأشغال
اليدويّة" ولبيبة هاشم، الّتي أنشأت مجلّة "فتاة الشّرق" عام 1900
وهي في الثّامنة عشرة، وكانت أوّل امرأة تعيّن مفتّشة المعارف في دمشق (1912)، ألم
تعلّم في الجامعة المصريّة رغبة في العطاء وتأمينًا للعيش الكريم؟ وماذا عن هنا
كسباني كوراني، المرسلة والمؤلّفة والمترجمة والخطيبة، الّتي انتدبت عام 1892 ـ
وعمرها 22 سنة ـ لتمثيل بنات سوريا في مؤتمر النّساء العالميّ في شيكاغو؟ وماذا عن
حبّوبة حدّاد، وجوليا طعمة دمشقيّة، وعفيفة كرم، وسلمى صائغ، وروز عطاالله شحفة،
وسلةى محمصاني مومنة، وجهان غزّاوي عوني؟
وماذا تقول ميّ م. الرّيحاني عن نجلا أبو عزّ الدّين،
ووداد المقدسي قرطاس، ولورين شقير ريحاني، وانجيل عبّود، وزاهية قدّورة؟ وهل ذهبت
روز غريّب للتّعليم في الموصل، لمجرّد الهواية أو التّسلية؟ وأدفيك جريديني شيبوب،
الّتي ترمّلت وهي في أوائل العشرينات من عمرها ـ وكان ابنها في عامه الثّاني
وابنتها لم تتجاوز السّنة ـ ألم تجاهد وتناضل لتأمين حاجة عائلتها؟ هل كانت هذه
الأديبات والشّاعرات والمؤرّخات والنّاشرات... قليلات الانتاج، ميّالات إلى
التّجمّعات والصّالونات، ساعيات إلى الأدب عبر المراكز الاجتماعيّة (أتمنّى على
السّيّدة الرّيحاني أن تقرأ كتاب الدّكتورة ماري عزيز صبري عن الرّائدات اللّواتي
انجبتهنّ كلّية بيروت الجامعيّة ـ BUC ـ
وهو بالإنكليزيّة، صدر 1967)؟
وتبقى ميّ زيادة الّتي عاشت حياة الّلاحرمان المادّي
"في ظلّ أبوين مثقّفين كانت وحيدتهما فبذلا كلّ ما في وسعهما لتثقيفها وإنماء
مواهبها". لكن الشّابة الّتي أتقنت الّلاتينيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة إلى
العربيّة، وتفوّقت في الإنشاء وإلقاء الخطب، فضلاً عن نجاحها في الموسيقى والغناء،
لم تكتف بذلك القدر من العلم والمعرفة، بل واصلت الدّرس الذّاتيّ وتمكّنت من إتقان
الإيطاليّة والإلمانيّة مع إلمام بالإسبانيّة. كما كتبت مذكّراتها وأشعارها
بالفرنسيّة وترجمت قصصًا عن ثلاث لغات أجنبيّة. تتلمذت على يعقوب صرّوف
"الّذي حاطها برعاية أبويّة"، وعلى أحمد لطفي السّيّد "الّذي
أطلعها على كنوز العربيّة وحبّب إليها الكتابة بلغة "الضّاد". وفي وقت
لاحق، وعلى وجه التّحديد بعد عامين من إنشائها ندوتها الأدبيّة الشّهيرة، التحقت
بالجامعة المصريّة حيث "انكبّت على درس التّاريخ والفلسفة والفلك القديم
والعلوم العصريّة".
وصالتها الأدبيّة، الّتي "جدّدت بها عهد سكينة بنت
الحسين والمركيزة دو رمبوييه"، ظلّت تستقطب لما يقرب من عشرين عامًا (بدءًا
من سنة 1914 ) نخبة من الأدباء العرب والأوروبيّن (المقيمين في مصر) يقول أحدهم ـ
طه حسين ـ إنّ آثار ميّ "ظهرت في كثير من إنتاج هؤلاء النّاس". من روّاد
ندوتها أيضًا: شبلي الشّميل، خليل مطران، ولي الدّين يكن، أحمد زكي، مصطفى
الشّهابيّ، سليمان البستاني، أحمد شوقي، حافظ ابرهيم، هدى شعراوي، ملك حفني ناصف
(باحثة البادية)، إيمّيه خير. ومنهم أيضًا عبّاس محمود العقّاد، الّذي وصف إحدى
هذه النّدوات: "كنّا نحو ثلاثين كاتبًا وأديبًا ووزيرًا... إبّان المنازعات
السّياسيّة الّتي وصلت بكثير من الكتّاب إلى حدّ التّقاطع والعداء... فقضينا عندها
ساعتين نسينا فيهما أنّ في البلد أحزابًا ومنازعات، بفضل براعتها في التّوفيق بين
الآراء والأمزجة، وقدرتها على الحديث... وما أحسب غير ميّ قد استطاع الّذي
استطاعته في تلك الأيّام". وللشّاعر
اسماعيل صبري هذان البيتان في ندوتها الأسبوعيّة:
روحي على بعض دور الحيّ حائمة
كظامئ الطّير توّاقًا إلى الماء
إن لم امتّع بميّ
ناظري غدا
لا كان صبحك يا يوم الثّلثاء
وأطلق عليها كبار الأدباء والشّعراء في ذلك العصر
أوصافًا اتّسمت بروح المبالغة السّائدة في كتاباتهم:ملكة دولة الإلهام (يكن)،
فريدة العصر (مطران)، الدّرة اليتيمة (صرّوف)، سيّدة القلم العربيّ في التّاريخ
كلّه (مصطفى صادق الرّافعيّ)، كاتبة العصر ونادرة الدّهر (شكيب ارسلان)، حليّة
الزّمان (الأب انسطاس الكرمليّ)، النّابغة (فايز الخوري)، نابغة بلادي (شبلي
الملاّط). لكنّ المستشرق الألمانيّ الشّهير جوزف شاخت وصفها أيضًا بالشّاعرة
الشّهيرة، الأديبة العلميّة، الخطيبة الفصيحة. كما كان المستشرق الإسباني الشّهير
أيضًا، الكونت دي غلارزا، يعتبر نفسه أخاها في الحكمة أو أخاها في الفلسفة. كذلك
أهداها شاعر الهند العظيم طاغور إحدى قصائده الإنكليزيّة (طائر الصّباح).
أَميُّ هذه، الّتي كانت بين الأقلام والكتب "كالشّمس
بين الأقمار والشّهب، أحيت عهد القريض والأدب، وجدّدت للعصر رونق العرب" –
أَميُّ هذه، هي الّتي تقول سميّتها أن الكتابة عندها لم تكن أكثر من مجرّد ترف
إجتماعيّ أو نوع متطوّر من الأشغال اليدويّة؟
غسّان غصن
(المنصف – جبيل)
جريدة "النّهار" الثلاثاء 30 آب 1994
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق