زمن المسرح الجميل |
المشهد الثّقافيّ حين التّوقّف والتّأمّل
لِمَ التّقليد ولا ضرورة للمبدع؟
بات الحديث عن المشهد الثّقافيّ عاجزًا عن تقديم الجديد
أو تجديد القديم، وصرنا نشعر حين نكتب عن هذا الموضوع أنّنا نستعيد الكلام ونستحضر
المشاكل، دون أن يكون للكلام أثر فاعل، ودون السّماح لنا، حتّى عبر الحلم، أن نجد
حلولًا.
وحين ننظر إلى هذا المشهد في شكل إجماليّ لا يلفتنا إلّا
القليل من الومضات العابرة والسّريعة، حين صدمنا التّقليد والاجترار وتخيفنا
احتمالات الفراغ، ما يجعلنا نضع الهزيمة عنوانًا وحيدًا لهذه المرحلة.
ثمة خسارة أكيدة في رحيل المبدعين، ونحن حين نقول
الرّحيل نهرب بسذاجة من كلمة موت، وكأنّنا ننتظر عودة الرّاحلين. ربّما يحمل موت
المبدعين هذا الرّجاء. فنحن عبر أصواتهم وإنتاجهم، كلّ واحد في مجال عطائه، نستعيد
هؤلاء المبدعين ونبقيهم على قيد الحياة. ولكنّنا لا ننفي إنّ موتهم خسارة مضاعفة لأنّنا نفقد إضافة إلى الإنسان ،
الطّاقة الإبداعيّة، وخاصّة إذا كانت في عزّ عطائها.
أعتقد إنّ الحديث عن الخسارة عند رحيل كلّ مبدع اعتراف
مبطّن بالخوف من الفشل في إيجاد إبداع جديد ومواهب جديدة. ولذلك ربّما تتكرّر هذه
العبارة في كلمات الرّثاء: "كان (الرّاحل) موهبة لن تتكرّر". ومن قال
أصلًا إنّ هذه الموهبة يجب أن تتكرّر. أليس من منطق الحياة أن تولد مواهب جديدة؟
ألهذه الدّرجة فقدنا الثّقة في إمكان وجود قدرات عطائيّة واعدة؟ قد يكون هذا هو
السّبب الّذي يجعل بعض النّقّاد يحاربون أي كتابة مختلفة أو أي عطاء جديد ويسخرون
منهما لأنّهم لا يجدون في هذا الجديد صدى أفكارهم أو أثر أسلوبهم.
والمضحك المبكي أنّنا نفاجأ مع كلّ رحيل بمواقف مثيرة
للشّفقة ما يجعلنا نعتقد إنّ الموت يتقصّد ذلك ليظهر ما فينا من رغبة في وضع
أنفسنا في مواقف ساذجة.
أليس من الضحك المبكي أن ننتظر ما ستفعله لجان التّكريم
ونحن لم ننس بعد لجنة تكريم عاصي الرّحباني ولجنة تكريم هند أبي اللّمع ريمي
وغيرها من اللّجان، وصولًا إلى لجنة إحياء ذكرى رياض شرارة؟
أليس من المضحك المبكي أن نلاحظ أعراض التّعب والمرض على
كثير من النّاس يوم دفن رياض شرارة، ونشهد على وعودهم بالامتناع عن التّدخين
والقهوة لئلّا يموتوا كما مات، و"نسمع تعليقهم الوحيد: يبدو أنّه كان إنسانًا
حزينًا أو لما مات"، ثمّ نسمع نقابة الفنّانين تتّخذ قرارها ضرورة قيام
الفنّانين بالفحوصات الطّبيّة؟
أليس من المضحك المبكي أن يخطر على بالك أنّ هؤلاء
النّاس قالوا هذا الكلام مرارًا ـ ألا تذكرون وفاة فريال كريم؟ ـ ثمّ نسوا وعادوا
إلى الدّخان والقهوة والضّحك. وسينسون وسيعودون للتّفتيش عمّن يدفعهم إلى الضّحك
ولو على أنفسهم زمن ما عدت قادرًا على التّمييز بين الضّحك والبكاء؟
أليس من المضحك المبكي أن تبدو لك الدّولة ضاحكة في
عبّها، شاكرة ربّما لأنّها غير ملزمة التّأمين الصّحيّ على المبدعين، فالموت أرخص
والوسام أقلّ ثمنًا، من تكاليف ليلة يقضيها مبدع مريض في المستشفى؟
وها هو مشهد ثقافيّ آخر يطرح المزيد من الأسئلة:
شهد مسرح بيروت خلال الأيّام السّينمائيّة لمارون بغدادي
إقبالًا شديدًا وخاصّة من جيل الشّباب، وهو ما أعطاه الياس الخوري تسمية حلوة إذ
قال إنّ ذلك "دليل عطش".
مع التّوقّف قليلًا عند هذه الظّاهرة المباركة لا بدّ أن
نسأل هل هذا الحشد بهذا الحجم لأنّ مارون بغدادي رحل؟ وهل كان يمكن لو دعا هو
بنفسه إلى مهرجان أفلامه أن يجد الحشد نفسه؟ أما كان رائعًا أن يشهد هذا المخرج
على التّقدير والإعجاب والإصرار على حضور أفلامه وإن جلوسًا على الأرض، وهو يتمتّع
بالحياة ويستمتع باستمتاعنا بأفلامه بما تحمله من وجع؟
عسى أن تكون هذه التّظاهرة بادرة خير، ولعلّنا نتعلم كيف
نشجّع أعمال المبدعين وهم بيننا يقبلون الملاحظة ويأخذون بالنّصيحة، هذا إذا
تفاءلنا وصدّقنا إنّ النّقد نقد بنّاء، وإنّ هؤلاء المبدعين في مرتبة من التّواضع
تجعلهم مستعدّين لتقبّل النّقد.
ولكن هذا لا يمنعنا من إبداء ملاحظتين: أوّلاً إنّ غياب
هذه العجقة عن مناقشة أفلام مارون بغدادي غير مبرّرة وغير مفهومة فلا يمكن أن يكون
هؤلاء الّذين تابعوا الأفلام وهم في أكثرهم من جيل الشّباب يعرفون كلّ شيء عن
بغدادي وعن تجربته السّينمائية وصراعاته المتعدّدة الاتجاهات.
ثانياً، إنّ غياب الوجوه الإعلاميّة البارزة عن هذا
اللّقاء غير مبرّر أيضاً، بل مثير للشّكوك، فإذا كان الأمر موجّهاً ضدّ الّذين
أداروا النّدوة وهم الياس خوري وعباس بيضون ومحمد سويد، فالأمر مؤسف فعلاً، لأن في
إمكان هؤلاء الغائبين أن يحضروا ويلقوا الأضواء على ما كان يمكن أن يعتبر تغييبًا
مقصودًا. دون أن ننسى إنّ الّذين أداروا النّدوة أوضحوا أنهم لا يستطيعون الإجابة
عن الأسئلة عوضاً عن بغدادي. بل أن الهدف من اللّقاء هو فتح باب النّقاش حول أعمال
بغدادي.
وإذا كان الياس خوري شديد الإنفعال أحياناً، شديد
الحماسة لما يعتبره صواباً فيخيف بعض العناصر الشّابة الّتي كانت تريد أن تبدي
رأياً مختلفاً حتّى لا نقول مخالفاً، ولكّنها امتنعت خشية تعليق مبطّن أو ملاحظة
قاسية اللّهجة، وإن لم تكن قاسية المضمون، إذا كان الياس خوري كذلك، فهذا لا يعني
أنّنا، نحن الجمهور العادي، لا نطالب بالمواجهة الثّقافية الحقيقيّة لأن فيها
ثقافتنا و"الثقافة معرفة".
وقد يعطي غياب هذه الوجوه الإعلاميّة عذراً لسيّئي
النّية كي يقولوا إنّ هؤلاء النّقاد لا يتواجدون – وبكثرة – إلّا إذا كان المحتفى
به حاضراً وشاهداً على حضورهم وكتاباتهم. وقد يستطرد سيّئو النّية هؤلاء ويقولون إنّ
مناقشة أفلام ميشال خليفي شهدت وفرة إعلاميّة ظاهرة، وسيطرت فيها آراء هؤلاء النّقّاد
وأصوات تحيّاتهم مرافقة بالدّعوات العلنيّة إلى عشاء هنا وسهرة هناك، لا أدري كم
لبّى منها منها المخرج الفسطيني.
ثمّة رتابة واجترار في المشهد الثّقافيّ يجعلان المتلقّي
شديد الحساسيّة تجاه ما يراه أو يسمعه، معتبراً إنّ علامة استفهام كبيرة ترتسم
أمام كلّ عطاء. وإن طرأ جديد ما، فغالبًا يكون هذا الجديد إمّا نافرًا غير منصهر
في الحياة الثّقافيّة، وإمّا مرفوضًا لأنّه، وبكل بساطة، جديد. ويصحّ هذا الكلام
على الأعمال الكبيرة كما على التّفاصيل البسيطة وهي لا تستحقّ أساسصا التّقليد أو
السّرقة. ألا يضحكك أن ترى إعلانًا قديمًا لمسرحية قديمة لروجيه عسّاف ضمن إطار
يمثّل صورة فوتوغرافيّة وعليها طابع يحمل تاريخ الحفلات، ثمّ تفتح كتابًا صادرًا
هذه السّنة إسمه Graphis
Poster، على
الصّفحة 109 وترى الفكرة نفسها، ثمّ تجد هذا الملصق على جدران المدينة يعلن عن
حفلة 17 أيلول؟
وتسأل نفسك: ألا تستحقّ حفلة كهذه، بذلت من أجلها جهود
إعلاميّة وسياسيّة جبّارة، وخصّصت لها أموال طائلة أن يكون لها إعلان مختلف ومبتكر
أو التّقليد أسهل وأسرع؟
لا شك إنّ في هذه اللّوحة الثّقافيّة الرّماديّة عناصر
فرديّة بارزة. ولكن عدم انصهارها في شكل متناغم ومنسجم يظهرها مشوّهة وغير فاعلة،
دون أن ننسى إنّ وراء كلّ ذلك رهانًا شبه أكيد على جهل المتلقّين وعدم إطلاعهم ما
يجعل المبدعين مطمئنّين إلى مواقعهم، آمنين في ملاجئهم، وتزداد مشكلة الثّقافة
وضوحًا حين يبدو المثقّف ضائعًا بين نظامين دكتاتوريّين يتجاذبان دوره: فالرّأسماليّ
يريد شراءه، والعسكريّ (شرعيّاً كان أم ميليشياويًّا حزبيًّا أو دينيًّا) قادر على
قمعه. وهو إذ يستفيد حتّى الآن من هذه الفسحة المتاحة بين هاتين السّلطتين لا يجرؤ
على التّفكير في مصيره في حال الإتّفاق بينهما.
والمخيف أنّ هذا المثقّف لا يجد ما يملكه في هذه الفسحة
سوى الذّكرى والحسرة، وربّما البحث عن وظيفة جديدة، لا تتطلّب أيّ ثقافة.
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الأربعاء 19 تشرين ألأوّل
1994
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق