على رمل الشّاطئ والمستقبل
ونحن نهرب إلى الماضي
"الآخر الّذي يجرح المكان ليس من ذكريات
المكان".
عقل عويط (قضايا الأسبوع – عدد 49)
كانت الحرب، وكان خوف ورعب وانتظار، وكان حبّ
كثير.
كنّا نخاف من ذاك الّذي يقف على الحاجز، وذاك
الّذي يقصف ويدمّر ويفخّخ الأمكنة الآهلة، والخوف الكبير يولّد عداء وكرهًا.
ولكننا، في الحرب، أحببنا الّذين حولنا،
وقلنا لهم ذلك، خفنا أن يسبقنا الموت قبل أن نقول لهم كلمة حلوة خبّأناها مذ
علّمونا إنّ التّعبير عن المشاعر ضعف وعيب.
أحببنا وخفنا على من نحبّ، التصقت أجسادنا
بأجسادهم في عتمة الملاجئ ورطوبة الظّلمات، تآلفنا مع أعضائنا، خفنا عليها من
البتر والتّشويه. إلتففنا على أنفسنا كالأجنّة. صلّينا كثيرًا، قدّمنا النّذور
لنرى أحبّاءنا بخير. كتبنا الشّعر على ضوء شمعة وانتظرنا بصبر عجيب رنين الهاتف
يطمئننا إلى أصدقاء في مناطق لا نزورها إلاّ في فترات وقف إطلاق النّار.
في هذه المرحلة من تاريخ بيروت، عرفت بيروت.
كنت صغيرة يوم بدأت الحرب، وكان الجبل وجهتنا
الوحيدة، فلا عمل دائمًا لنا في العاصمة ولا نقصدها إلاّ لزيارة سريعة أو لعمل
طارئ، أو للتّفرّج على زينة الميلاد في شارع الحمراء.
ولكنّي قرأت عن بيروت، انطبعت في ذاكرتي
أسماء شوارعها ومقاهيها من دواوين الشّعر، ومذكّرات السّياسيّين المضطهدين،
ومقالات الصّحف. ويوم عبرت طريق المتحف سيرًا خلال الحرب والتقيت بأصدقائي في
المودكا، قبل أن يجدّد أثاثه، عرفت إنّ علاقتي ببيروت لن تكون عابرة.
تجوّلت في الشّوارع الخالية، رأيت وجوهًا بدت
لي مألوفة ولا أحد من منطقتي كان يجرؤ على الوجود حيث أنا.
مشيت على رمل الشّاطئ، وصدّقت يومها إنّ
لبنان يقع على البحر الأبيض المتوسط.
اليوم، نزل النّاس إلى بيروت. عاد إليها
الّذين تركوها، عادت إليها الأموال، وتغيّرت وجوه ممارسيّ الرّياضة الصّباحيّة على
الكورنيش. وهناك عجقة سير، وامتلأت المقاهي، وغيّر المودكا أثاثه... وما عدت ألتقي
أصدقائي. أخذتنا دوّامة العمل وابتعدنا عن الّذين خفنا عليهم أيّام الحرب،
وتناسينا كلام الحبّ الّذي قلناه.
عاد كلّ شيء إلى طبيعته، يقولون. ولكن بيروت
الّتي قرأت عنها لم تعد بعد،فلا هي الآن بيروت ما قبل الحرب، ولا هي بيروت الحرب.
هي مدينة جديدة غريبة باردة.
هي المدينة الّتي عاد إليها الّذين غابوا
خلال الحرب. عادوا بعنجهيّة وكبرياء، يعطوننا دروسًا في الوطنيّة، يتّهموننا
بالإجرام. يحتلّون الأمكنة الّتي حضنتنا أيّام الخوف والرّعب. بثيابهم الجديدة
وهواتفهم الخليويّة يجلسون على مقاعدنا في المقهى، ولهم الصّفوف الأماميّة ويريدون
استرداد ماضي العزّ الّذي كان لهم.
هؤلاء كانوا أوّل المغادرين يوم الحروب
وثقلها علينا. لم يعرفوا رطوبة الملاجئ، لم يحرموا من ضروريّات الحياة، لم يعرفوا
معنى أن نصرخ في ليالي القصف الرّاعد. وأنت تصمّ أذنيك: خلص، خلص.
والآن يعودون ليشمئزّوا من كثرة النّفايات،
وليتأفّفوا من عجقة السّير، وليقارنوا وضعنا المتخلّف بأوضاع البلدان الرّاقية،
ولينتقدوا تصرّفاتنا المريضة من جراء حروبنا "البشعة".
يعودون ليستردّوا الأمكنة وكأنّها حقّ موروث،
وليتصدّروا صفحات الصّحف وغلافات المجلاّت، وليعلنوا أنّهم مع البناء والإعمار
والسّلام، وكأنّنا نحن الّذين بقينا هنا، مجرمون خونة نستحقّ الإبعاد لأنّنا
ببقائنا ـ على رأيهم ـ وافقنا على هذه الحرب.
يعودون من السّفر والنّجاح والثّروة،
ليطمئنونا أنّهم حملوا لبنان معهم أينما حلّوا، ورفعوا اسم الوطن عاليًا، وأنّهم
كانوا يشعرون بالأسى لوضعنا المأساوي وكانوا ينتظرون عودة السّلام بفارغ الصّبر.
ويعودون دون عقد نفسيّة، دون أعصاب متوتّرة
لينظّفوا البلد الّذي ملأناه أوساخًا، ليبنوا ما هدمناه، ليصحّحوا الخلل الّذي
أصاب أذواقنا الفنّيّة والثّقافيّة. يعودون، وعلينا، بكلّ بساطة، أن نخلي الأمكنة
لأصحابها الأصليّبن الّذين سيتركونها لأولادهم من بعدهم.
أمّا نحن، جماعة الحرب، فإنّنا نسيء إلى
الصّورة الّتي ستسوّق عن لبنان. نحن نحمل على وجوهنا اصفرار القلق والتّرقّب، وحين
نتكلّم ننفعل ونستعين بتعابير عسكريّة لا تتلاءم مع مرحلة الازدهار والعمران، وحين
نكتب نتحدّث عن الماضي الّذي نعرفه، ماضينا نحن، وهو ماضٍ قريب مليء بالثّورات
والأحلام والهزائم. أمّا هم فيتحدّثون عن الماضي الأبعد، ماضيهم، ماضي الرّفاهية
والسّهر والضّحك المجنون.
لماذا يريد النّاس أن ينسواعشرين سنة من
عمرهم؟ لماذا يعتبرونها علامة سوداء في حياتهم، يخجلون من الإقرار بوجودها؟ قد لا
تكون هذه السّنوات هي المرحلة الّتي يتمنّى أن يعرفها من لم يعانِ منها. ولكن
الحرب وقعت، وأوقعت معها الكثيرين. ولكنّها أيضًا رفعت الكثيرين. ولولاها لفشلت
أسماء كثيرة في الإعلان عن وجودها. لولاها لما وصل الكثيرون إلى حيث هم.
هذه السّنوات العشرون ليست حُلمًا ورديًّا
وليست كابوسًا نستيقظ منه وننفضه عن أجفاننا، إنّها حقيقة أوجدت وقائع جديدة، وعلينا
التّعامل معها من هذا المنطلق.
نحن الّذين بقينا هنا، عرفنا الخوف والحرمان
واليأس والعجز، وسنحمل آثارها ما دمنا على قيد الحياة، ولكنّا بقينا واستمرّت
الحياة فينا. ولن نقبل أن يأتي من يقول لنا إنّنا جيل حرب وكأنّه يوجّه تهمة
أوشتيمة. ولن نرضى أن يقال إنّ أعصابنا متعبة وأفكارنا ثوريّة هدّامة وعلينا أن
ننسحب لنترك الأمكنة لمن سيعيدون إلى هذا البلد وجهه الأنيق المشرق، والمثير
للحركة السّياحيّة.
ذاكرتي ليست متحيّزة، نحن نحمل في ذاكرتنا
ذاكرتهم، نحمل الشّعر الّذي كتبوه، نحمل المهرجان الّذي أقاموه ومواسم العزّ الّتي
تعبوا من أجلها، ونحن لا نفعل ذلك لأنّها كانت أيّامًا تحمل الفرح فقط بل لأنّها
جزء من تاريخنا ولذلك نحمل أيضًا حروبهم وأحزابهم وطوائفهم وتكتّلاتهم العائليّة.
نحمل أفراحهم وأحزانهم بحنان وحنين وعلامات استفهام، فلماذا يرفضون الذّاكرة الّتي
نسعى إلى تأسيسها؟
في ذاكرتنا البشاعة والجمال، وفيها القتل
والحبّ، وفيها حكايات البطولة وقصص الرّعب، ولكنّها ذاكرتنا ونحن فخورون بها
لأنّها تحملنا ونحملها. ولن نشعر بالعار ولن نخجل مهما قال هؤلاء العائدون، ولن
نرضى أن نكون مجرّد مادّة لأفلامهم التّوثيقيّة تصف بؤسنا، أو لكتبهم تروي حروبنا
الصّغيرة وتحصد الجوائز.
بيننا وبينهم صراع نفوذ. هم يعتبروننا حالة
طارئة، احتللنا أماكنهم وصادرناها ـ بالمعنى العسكريّ للكلمتين ـ وعندما زالت
أسباب وجودنا صار من الواجب أن نتنحّى. ونحن الآن نعتبرهم غرباء، لا يعرفون ما
نعرفه، ولم يروا ما رأيناه، فكيف يمكنهم بعد الآن أن يتحدّثوا نيابة عنّا.
العائدون مقتنعون أنّهم الأفضل، ويقولون لو
أتيح للّذين هنا الرّحيل لما تأخّروا، ومنهم من يسخر من هذه الإدعاءات الوطنيّة
الّتي نتاجر بها، يقولون، وكنّا نستعملها غطاء نحجب به عجزنا.
معهم حقّ. كم كنّا ساذجين يوم قلنا: لن نرحل.
فلو تركنا البلد منذ عشرين سنة لكنّا حافظنا على قوانا العقليّة والجسديّة، ولكنّا
تزوّدنا ثقافة العصر طازجة من مصادرها، ولاكتسبنا بدل اللّغة لغات، ولاستقبلنا عند
عودتنا بالأهازيج. ولأنّنا مغتربون سيكون كلامنا مقدّسًا. فاحتكاكنا بالأجانب
أعطانا الحصانة والعصمة عن الخطأ. بالطّبع لن يجرؤ كثيرون منّا على الاعتراف
بالخجل من العودة كما فعل مصمّم الأزياء جان ـ بيار دوليفير في "ملحق
النّهار". ولكن هل يستطيع هذا الإعتراف، باللّغة العربيّة المنسيّة، أن
ينسينا كيف إنّ بعض النّاس يجيدون اختيار المكان والزّمان الملائمين؟
قال لي زاهي وهبي، عبر هذه الصّفحة،
"عساك تجدين أسبابًا للكتابة غير الغضب". ليعذرني الشّاعر الّذي فيك يا
صديق الكلمة ورسولها، يبدو إنّني ما زلت غاضبة، ربّما لأنّ الغضب صار يائسًا
وعقيمًا، ربّما لأنّ الغضب ما عاد يحرّك ساكنًا ولا يثير ثورة، فازداد غضبًا على
غضب ونقمة على نقمة. وربّما كان هذا الحاضر المسطّح والسّخيف صار ساحة صراع بين
ذاكرة وذاكرة. ولأنّ المستقبل يرسم لنا مبهرجًا وكثير الألوان إلى درجة منفرة، ولأنّنا
حين نهرب من الحاضر والمستقبل نعود إلى الماضي، نبحث عنه في ألبوم الصّور، في
شوارع المدينة المتغيّرة، في حقول القرى المهملة، في برنامج تلفزيونيّ قديم وفي
أغنية عن الغروب والحنين. ونكتب، عسى أن يبقى مكان لكلمة في هذه العجقة المخيفة.
ميّ م. الرّيحاني
(الاسم المستعار لماري القصّيفي)
جريدة "النّهار" الخميس 15 أيلول
1994