وحدها وردة فلشت حضورها. اضطلعت بدور البطولة، منذ فَرنَج اسمها أول عابر بها، قطف رغبةً، وما انتظر ثمرًا، ولو ندهته الفتنة شوقًا. تقمّص دورًا، وانتقل إلى آخر، كان له فيه من ينتظره، وعلى عكس انتظار الحاضر، الراضخ للإمتلاك بالكليّة جسدًا حُرم الوقوف في ضوء العري المبارك، من دون وَجَلٍ أو خجل.
مُلِكتْ، ولم تَملُك. الملح في الجرح دعوة للخروج من شرنقة التعثّر إلى الارتماء فوق الموج... ولتتعب الخيانة، وحدها، من التجذيف عكس التيّار.
وردة التي فرنج اسمها الكولونيل إلى روز، تجاوزت الحبّ في سيرتها، كي لا تَخسَر العشق.
القبض على الأجساد إرضاء وحاجة، في آن، واختصار غضبٍ وتعبٍ وقرفٍ ما استطاعوا اقتلاعها من حديقة العائلة، والممرات النابت فيها الشوك.
بعد زيجة لم تتم وانتهاء خدمة الكولونيل، وعودته إلى عائلته في فرنسا، خلعت روز جسدها ونشرته في الشمس، ليجفّ من رائحة كانت المسام اشتهتها، وما عادت خرجت.
ذاكرة النساء مثل ذاكرة المسام، تحتفظ بالأحداث، وتسمح بإظهار ما لايطالها بذنب، أو بِرَدّ فعل أو انفعال.
قد يُظن أن ذاكرتهم كتاب فُتح على وجوه، لكن اللهاث، هربًا من الإجابة، يُشكّل ضبابًا كثيفًا يضمن له الحماية.
لم تهرب وردة روز من الأصوات والعيون والريح التي لاحقتها عاصفة.
هربت مما في داخلها، تعبت مما لم تملك، وهي التي مَلّكت. شعرت بهزيمة لا غفران في الانقلاب عليها، أو التخلص منها، إلا بدخولها، وفعلت.
صحيح أن وردة هي زهرة الكتاب الذي فلش أوراقه من زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، في النصف الأول من القرن الماضي، مرورًا بالنصف الآخر منه، والحرب... وربما إلى الآن، وما تزال بعض الأوراق تنتظر حبر الذاكرة، لتخرج لابسة امتداد حكاية هي نمط حياة كاملة لمجتمعات متداخلة بعضها ببعض، ولرغبات يختلط فيها واقع الحال، بتداعيات أحلام لم تكن كلّها بنت مخيّلة، بعضها صُنِع وحقّق مآرب، ولو على حساب رومنسية أصيبت بخيبة ميول تَعرّت، وتحوّلت في اتجاه معاكس، وجاء القبول تعوّدًا.
صحيح أن كلّ امرأة تُحبّ أن تأخذ الحكاية إليها، وأن تكون هي بطلتها، لكن هذا لا يعني أن الباقيات تركن حَقّهن يضيع، وخرجت كل واحدة إلى الضوء بما سمح لها موقعها.
الأم التي غضت طرفًا، لترتيب زواج لابنتها وردة من الضابط الفرنسي، لم تستسلم للنتائج. منعت الفضيحة من الدخول إلى مجتمعها وبيتها، وحوّلتها إلى نعمة استفادت منها ماديًا، وخصوصًا بعد امتهان روز لجسدها.
وفي مشاهد تشبه مجتمعًا بتناقضاته، حدثت في العائلة زيجة مختلطة، وزيجة من شريكين غير متكافئين، ودخل الابن الأكبر مهنة تهريب المخدرات قبل أن يشبّ، وحظي برضى الأم التي أخذت الغلّة وباركت، إلى الحرب وجنون القتل والقنص والخطف فالعصفورية وسكّانها من المرضى، ومن يُظن انهم أصحاء، إلى تأثير الدين والتطرّف والممارسات، والدخول في العادات إلى حدّ إلباسها مهابة من القدسيّة، وصولاً إلى نهاية لا تضع نقطة في آخر النص، ولو كانت انتحارًا، فتستفيق الذهنية الجماعية التي تُسقط الخاص على ما عداها، وهي منه في الصميم.
قصة وطن، قصة مجتمع، قصة طوائف ومذاهب وتناقضات تمثّلها قصة عائلة، وعائلات في كلّ زمان ومكان.
هدهدت الكاتبة الكلمة في نصّها، دلّلتها، صيّرتها نغمًا، زهرًا، عطرًا لا ينزل إلا على جسد تمرّد ظاهريًّا، ثم ضعف واعترف.
القلم أطاعه الجمال صياغةً، فإذا النثر في موقعه البهيّ تألقًا، تأتيه الأفكار ناضجة، لثقة تصل بها إلى الكتاب المشرّع على السفر إلى الضوء.
صناعة النص لدى ماري القصّيفي تأخذ خصوصيّة الجوهرجي، وكأنها من عصب يتسارع، يجيء، قبل أن يهدأ من فرط ما حمل من مشاعر وأحاسيس، هي من النِعَم هويّة وميزات، لنا منها حظّ المطلِّ الناظر إلى المدى، حيث تغيب شمس، لتشرق أحلام الحكايات في مدن، وفي ضياع تقابلها.
أما الأسلوب فما عرف العادي من السرد، إذ لا كلمة في غير موقعها، ولا عبارة شابها نقص في مضمون، أو في شكل يُحسب له الحساب في نص، قصر أم طال، إنه الضرورة في الكتابة.
تنوع في بلاغة، يزيد في التماع لسكب نهر من السواقي يصل إلى مصبٍ في بحرٍ تأخذ الرواية منه مكانتها، وتعبر، من واقع إلى واقع، وبين الاثنين ما جُمع من حقيقة، أو مخيّلة، ومن خصوصيّة هي لبّ، من دونه يقع النص في مجانيّة لا حياة دائمة فيها، ولو تَجمّلت.
لحكاية كلّ الحق عَ فرنسا مهابة أسرار المطر، فوق صخرٍ، فوق ترابٍ، فوق قرميدٍ وناسٍ أشجار حياة، لكلّ شجرة زهرها وشوكها وثمرها ونكهة الحضور في العين والفم والقلب. وأما العقل فلا يبتعد عن دور له، أَظَهَر فوق بياض الورق، أم تخفّى.
كلّ الحق عَ فرنسا رواية ماري القصّيفي، منشورات دار سائر المشرق في 337 صفحة من القطع الكبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق