15 أيلول 2014 - صحيفة النهار
"للجبل عندنا خمسة
فصول" لماري القصيفي (316 صفحة، دار سائر المشرق) رواية ما لا يُنسى أو ما
يجب ألاّ يُنسى، لأن الاعتبار في العِبَر الواقعية، ولأن التسامح كالتغاضي لا يحل
المشكلة، بل يعاودها، ولا مستقبل يبنى إلا بالاعتبار بالماضي حتى لو كان اطلال
منازل وذكريات بشعة مؤلمة.
كتبت
مذكرات عن حرب الجبل وبقيت الذاكرة والقصة والرواية، قاصرة كلها عن مأساة الناس
ورعبهم. والإخبار عن المشاهد المرعبة في حرب الجبل يدفع بالقارئ – المشاهد الى دير
الصليب، فكيف بمن عاناها؟ ففي دير الصليب "تجتمع ضحايا الهشاشة البشرية
وعبثية الله في مسرحية طويلة".
حوادث الرواية تثير شجون أهل الجبل وتعود بهم الذكرى الى
مآسي التهجير الى دير القمر، بعدما تخلوا عن بيوتهم وأرزاقهم. انها مأساة ثلاثية
البعد؛ قتل وتهجير وقطع أرزاق. "البهدلة" و"الشرحطة" كلمتان
ملطفتان عن المأساة الكبيرة. ففي حمأة القتل الغرائزي لم تفد الجيرة ولا الصداقة
ولا الرفقة في الحزب الواحد الذي يعتدي، ولا شفاعة لكبير أو زعيم او قائد،
"وحدها أدوات القتل سائدة لا ترحم ولا تأخذ بالأسباب التخفيفية".
الرواية عن فتاة، سلوى، امضت ثلاثين سنة في دير الصليب
مصابة بالشيزوفرينيا تتلبس شخصيات الآخرين، بعدما أكلت "معركة الجبل اجزاء من
عقلها وشوهت روحها"، قضت عليها "السطوة" التي تفاقمت بسبب العجز عن
تغيير ما جرى او محو آثاره. ان السطوة في عجزنا أمام لعنة تنزل بنا.
رواية الصوت العالي
تقول القصيفي بصوت عال ما قاله كثيرون همساً: ان الخبز
والملح لن يقدرا على مقاومة نداء الدم. نحن دفعنا الثمن بسبب غباوة المسيحي وغضب
الدرزي والغباوة قاتلة كالغضب. الغباوة تفرض نفسها من جديد على الجميع،
"فالمسيحيون الذين يحيطون بي في بحمدون يبيعون الارض من الشيعي والسني
والخليجي نكاية بالدرزي، والمسلم يشتري الآن نكاية بالدرزي الذي فضّل أن يهدم بيوت
المسيحيين على أن يلجأ اليها الشيعة. والدرزي ينسى أنه سيكون الضحية التالية في
هذا المشرق، بعد المسيحي، إلاّ اذا كان يراهن مرة جديدة على اليهودي!".
لخّص أبو جورج البحمدوني فلسفة التعايش لدى المسيحيين
بأنها مبنية على النسيان بسبب الضعف. النسيان يلئم الجروح على زغل فلا تشفى، وتبقى
عرضة للتقيّح، فتنز قيحاً. اثبتت تجارب الشعوب ان المصارحة، فالمصالحة، أثبت من
التغاضي والتسامح، و"عفا الله عما مضى"... ثم نكرر المأساة.
هذا يقود الى سؤال طرحته العامة من مسيحيي الشوف،
باستثناء المتحزبين: لماذا نريد كلنا ان يصالحنا الدروز ونحن لم نتصالح مع ماضينا
وأخطائنا، ولم نطوِ صفحة الحرب بيننا كمسيحيين؟!".
روايتان في رواية
لا تكاد تعتبر ان الرواية انتهت بانتهاء ما ترويه سلوى
عن مأساتها حتى يفاجئك راوٍ جديد بقصة تعيد ترتيب الحوادث وتصوّب الإبهام في بعض
النواحي فتقلب الموازين، فكأنك عدت تقرأ الرواية من بدايتها باتساق ووضوح، ويفك
الابهام – أي عقدة الرواية – الذي طغى متمثلاً بكره الأم لابنتها وعطفها على
توأمها الساذج.
الراوية هي بطلة الرواية، لكنها ليست كاتبتها. هي
المأساة. بهذه الصفة تروي وقائع، ولا تسرد حكاية. خمسة أسداس الرواية هذيان إمرأة
في دير الصليب، والسدس الأخير هو قصة الرواية.
ليست الشيزوفرينيا في الرواية، بل في حياتنا، وليست في
سلوى، بل في المجتمع المنقسم على نفسه والمشوّه بأفكاره ومبادئه.
تستند الرواية الى مشاهدات الطبيبة السويسرية جوزيان
ومراسلاتها الى طبيب الاسنان الفرنسي أريك، كما تستند الى روايات الذين عاشوا
المآسي وبقوا احياء، والى رواية انطوني خيرالله الذي قضت حرب الجبل عليه بعدما قضت
على أهله جميعاً، ثم قضى سلم بيروت على إرث والده، ملاذه في حرب الحياة بعد حرب
البقاء، اذ استولت "سوليدير" على متجر والده في باب أدريس مقابل مبلغ من
المال "لم يكفه سوى لتسديد قسط سنته الجامعية الأولى". هكذا سقط
اللبنانيون الابرياء، ولا سيما المسيحيون منهم ضحايا الحرب والسلم معاً فكانوا
الخاسرين في الحالين.
وإنما للمآسي في الحرب والسلم أشكال وصور مختلفة في
القضاء على المرء، وهو ما يفعله الانسان بأخيه، ثم يقول: قضاءً وقدراً.
joseph.bassil@annahar.com.lb
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق