Annibale Carracci |
(في مناسبة رفع الستارة عن منحوتة وجه المصلوب) - من كتابي الموارنة مرّوا من هنا
يا هذا! يا أنت! أيّها المعلّق على شجرة! أأنت المسيح أم يهوذا؟
كم أكره الحزن المرسوم على وجهك لأنّه طبع البشريّة بصورة الألم حتّى صرنا
نستسيغ طعم دمنا، ونلعق جراحنا كالكلاب المريضة، ونفتّش عن المرض كما تفتّش الهررة
القذرة عن طعامها في صناديق القمامة، ونقول: لا بأس، مع آلامك يا يسوع!
أيّها البائس المسكين!
تُرتكب الآثام باسمك، وأنت تحني رأسك خجلًا!
يبكي الناس مرّة في السنة عند مشاهدة فيلم آلامك، وأنت صامت تتفرّج كما
يتفرّجون.
تقام على شرف عذاباتك الاحتفالات وتنطلق الأصوات الصادحة والموسيقى العالية
لعلّها تخفي أنين المرضى وبكاء اليائسين ونحيب المعذّبين!
يرتفع رأسك المكلّل بالشوك فوق شجرة يابسة، لتنحني رؤوس البلهاء خاشعة،
ويغمضوا أعينهم عن رؤية أيّ ألم سوى ألمهم، وأيّ وجع سوى وجعهم، ويصمّوا آذانهم عن
أيّ إهانة سوى تلك التي لحقت بهم.
يرتفع رأسك المكلّل بالشوك (الثمين) فينظر إليه الناس ويحلّلون العمل
الفنيّ فيه، والموادّ المصنوع منها، ويحاولون أن يحدّدوا عمرًا لديمومتك في ساحة
بلدتهم (اطمئنّ، ستبقى المسيحيّ الوحيد بعدما يرحل الجميع).
يرتفع رأسك المحنيّ على جذع الشجرة، فينظر المطران إلى الشجرة ويحلم بعصا
البطريركيّة، وينظر الكاهن إلى إكليل الشوك ويحلم بتاج المطرانيّة، وتنظر إليك
الراهبة العجوز الشمطاء وتفكّر في أنّ خطبتها من هذا المصلوب لم تذهب سدًى،
فممثّلوك على الأرض قاموا بالواجب.
ألن تهرب الليلة من على الشجرة التي علّقوك عليها كأنّك يهوذا؟
ألن تخجل من الجائعين والفقراء والمطرودين من أعمالهم ومدارسهم، وهم ينظرون
إليك ويسألون عن كلفة رأسك، (الحمد لهم لأنّهم لم ينحتوا جسمك كاملًا!)؟ أتعلم
لماذا لم يصنعوا لك رجلين ويدين؟ لقد خافوا منك، خافوا من أن تنزل عن الشجرة وتصفع
وجوههم الغبيّة الجبانة، وتركل أقفيتهم الممتلئة شحمًا،وتحمل رأسك تحت إبطك وتهرب
قبل هذا الاحتفال" بآلامك الخلاصيّة؟
هل تعلم أنّ ثمّة رؤوسًا ممتلئة بالأفكار والأحلام والمشاريع لا تجد من
ينظر إليها في حين أنّ رأسك البرونزيّ سيكون محطّ الأنظار؟
كم أكره الحزن الذي جعلوه علامتك المميّزة!
يليق بك الغضب، تليق بك الثورة، يليق بك العنف!
يليق بك تحطيم التماثيل لا أن تكون تمثالًا، ويليق بك حمل السياط لا
المسامير!
يليق بك أن تتكلّم لا أن ترهق أذنيك بالخطابات الرنّانة وتعابير المجاملة
وبروتوكول الاحتفال الذي سيحييه المطران والخوري والراهبة والنحّات الشاعر الذي
تقصّد أن يغلق فمك جيّدًا لئلّا تتحدّاه في قول الشعر.
كم أكره الحزن على وجهك لأنّه يذكّرني بحزن البشريّة كلّها، بتعب العالم
كلّه، بيأس الناس في كلّ مكان، بالغباء المارونيّ، بالعهر اللبنانيّ، بالأشجار
التي كانت خضراء وصارت صلبانًا.
إنزل عن الشجرة يا رجل واحملها واتبعني لنجعلها حطبًا في موقد جبليّ،
ولنسهر معًا فأخبرك حكايات تمحو الحزن عن وجهك لأنّك عندما تسمعني ستبكي، ستبكي
كثيرًا، وعندما تبكي سترتاح، وتغفو على صدري وأنت مبتسم للمرّة الأولى منذ أكثر من
ألفي سنة.
أكره الحزن الذي ألصقوه بوجهك يا صديقي المسكين، والانهيار العصبيّ الذي
اتّهموك به، والسير إلى الموت كأن لا خيار آخر أمامك، والخضوع للضرب والإهانة،
ونكران الجميل من أتباعك وتلاميذك والمعجبين بك وكلّ الذين شفيتهم وأطعمتهم وطردت
الأرواح النجسة منهم. أكره كلّ ذلك الذي وضعوه إطارًا لك ليؤلّهوا الألم والإهانة
والغدر والتجريح، وليجبرونا على الصمت والخضوع أمام آلامك.
إنزل عن الشجرة العارية يا صديقي العاري، وارمِ أشواك تاجك في أفواه
المحتفلين بك، وامضِ معي إلى حيث لا يجدنا أحد، لعلّنا بعيدًا عنهم نبتسم قليلًا.
هناك تعليقان (2):
كل التعميمات خاطئة حتى هذا القول .. وصف الموارنة بالغباء .. اره ثقيلا .. اين هذا من ابناء الطائفة .. فلاسفة ، ادباء ، مترجمين وجسر للتلاقح الحضاري .. علماء واطباء مميزين ..قد لا تحلو الابتسامة بعيدا عن هذا الكل .. دمتي بخير
معك حقّ في أنّ التعميم أمر خاطئ، ويسعدني أن النظرة إلى الموارنة لا تزال ترى دورهم الحضاري... لكن أنت تعلم أنّ لكل نصّ مناسبة، لذلك أوضحت أنّ النص كتب من وحي رفع الستار عن منحوتة كلّفت آلاف الولارات في زمن يطرد فيه التلامذة من المدارس المارونية (أكثرها كي لا نعمّم) والمرضى من المستشفيات وذلك لأسباب مادية
الحرب الطويلة أبعدت أكثر الموارنة عن تاريخهم المشرّف وأغرقتهم في المادية... ليس حال الطوائف الأخرى أفضل حالاً، لكن كوني مارونية يفرض عليّ أن أقوم بنقد ذاتيّ قبل أن أشير إلى الخلل عند الطوائف الأخرى
دمت سالمًا
إرسال تعليق