Vladimir Kusch |
الكتاب رحلة
فيها محطّات استراحة ولكنّ الوصول غير متاح. فما من كتاب أخير.
وهذا السير
المتواصل المثير الممتع ليس آمنًا أو مطمئنًا، هو السير في الهواء أو على صفحة
المياه، وأسهل ما فيه أن يكون كالسير على حبل لا شبكة حماية تحته. إذ كيف يمكن أن
نقرأ كتابًا ولا نضع احتمالاً ولو ضئيلاً أنّنا لن نكون بعده كما كنّا قبله. وهذه
مغامرة بل مخاطرة لا يقدم عليها أيٌّ كان.
لذلك أنظر
بدهشة لا تفارقني إلى الذين يفتخرون بأنّهم مدمنو مطالعة ومع ذلك لا أجد ولو
تغيّرًا بسيطًا يطرأ على شخصيّاتهم لا سلبًا ولا إيجابًا. أيُعقل ألّا يثير كتاب
ما مللهم، أو إعجابهم، أو اشمئزازهم، أو رغبتهم، أو يحثّهم آخر على التفكير
والتأمل وربّما يدفعهم إلى اليأس أو الرجاء؟
كثير من الذين
يفتخرون بمئات القصائد التي يحفظونها عن ظهر قلب، ويتباهون بمكتباتهم التي تضمّ
آلاف الكتب يشبهون هذا اللابتوب الذي أكتب عليه، خزّان معلومات لا ينضب، لكنّه آلة
لن تتحوّل إنسانًا ينفعل ويتفاعل ويفعل، أو يعلّق ويعقل ويتعقّل.
فكيف يمكن أن
يبقى جبانًا أو حاقدًا أو محايدًا أو سطحيًّا أو باهتًا أو فاترًا أو مغرورًا أو
نمّامًا أو أنانيًّا من يدّعي أنّه قرأ مئات الكتب القيّمة؟
وكيف يستطيع
ألّا يهتمّ بالموسيقى والرسم والنحت والهندسة والفلك والسينما والمسرح والطبّ
والطبخ من يذكّرك في كلّ مناسبة بأنّه زبون دائم في مكتبة معروفة؟
وكيف نصدّق أن
هذا الذي يهوى المطالعة عديم الذوق، قذر الهيئة، غير أنيق، محاط بالبشاعة ويرتاح
إلى الفوضى ولا يحسن ترتيب حياته أو تنظيم شؤونه؟
وهل من
المنطقيّ أن تجتمع في شخص واحد هواية المطالعة مع "هوايات" صارت سائدة
كتشويه الطبيعة وتلويث الهواء وهدر المياه وإزعاج الجيران وتدخين الأركيلة؟
فخلال رحلة
السير الطويلة مع الكتاب، وهي لا هدف لها إلّا السير والاستكشاف، وإن لم يتغيّر
شيء فيك صفحة بعد صفحة، وإن لم تكن اليوم إنسانًا أفضل من الذي كنته يوم أمس، فهذا
يعني أنّك لست مؤهّلاً للمشاركة في مسيرة الحجّ المقدّسة للتبرّك بتجارب الآخرين. فلا
تتعب نفسك بل لا تعتدِ على الكتاب وتدنّس حرمته واتركه للغبار كفنًا يحفظه في
انتظار قيامة العقل.
***
(نشر هذا النصّ سابقًا على هذه المدونة في تاريخ 1 حزيران 2011 كجزء من ثلاثيّة بعنوان: وداعًا أيّها الكتاب!)
***
(نشر هذا النصّ سابقًا على هذه المدونة في تاريخ 1 حزيران 2011 كجزء من ثلاثيّة بعنوان: وداعًا أيّها الكتاب!)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق